IDSC logo
مجلس الوزراء
مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار

القوة الناعمة والصناعات الإبداعية والثقافية: “المناخ العالمي وفرص مصر”

 الإثنين. 17 مايو., 2021

القوة الناعمة والصناعات الإبداعية والثقافية: “المناخ العالمي وفرص مصر”

  أ‌. د. معتـــز خـورشـيـــد

تحظى مصر بقدرات عديدة تؤهلها للاضطلاع بدور ريادي على مستوى المنطقة العربية في مجال «القوى الناعمة» بصفتها قوى تسهم في تحول مصر إلى مجتمع معرفي مُبدع، وتدعم جهود التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تأكيد الدور المصري في التأثير الثقافي على مستوى محيطها الإقليمي العربي. وتُعرَّف القوة الناعمة (Soft Power) باعتبارها «استقطاب آخرين وجذبهم عبر آليات تقوم على الإقناع والجاذبية، بالاعتماد بشكل أكبر على موارد ناعمة غير مادية؛ مثل الثقافة، والأدب، والفنون، والقيم السياسية، وشرعية السياسات الخارجية، لتحقيق النواتج المنشودة». القوة الناعمة: تتميز القوة الناعمة بمعيارين رئيسين: يعتمد المعيار الأول على «نعومة أساليب ممارسة القوة» التي تعني بالأساس تراجع الطابع المادي وغلبة الطابع المعنوي النفسي الفكري

تحظى مصر بقدرات عديدة تؤهلها للاضطلاع بدور ريادي على مستوى المنطقة العربية في مجال «القوى الناعمة» بصفتها قوى تسهم في تحول مصر إلى مجتمع معرفي مُبدع، وتدعم جهود التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تأكيد الدور المصري في التأثير الثقافي على مستوى محيطها الإقليمي العربي. وتُعرَّف القوة الناعمة (Soft Power) باعتبارها «استقطاب آخرين وجذبهم عبر آليات تقوم على الإقناع والجاذبية، بالاعتماد بشكل أكبر على موارد ناعمة غير مادية؛ مثل الثقافة، والأدب، والفنون، والقيم السياسية، وشرعية السياسات الخارجية، لتحقيق النواتج المنشودة».
 
القوة الناعمة
 
تتميز القوة الناعمة بمعيارين رئيسين: يعتمد المعيار الأول على «نعومة أساليب ممارسة القوة» التي تعني بالأساس تراجع الطابع المادي وغلبة الطابع المعنوي النفسي الفكري، من خلال «القدرة على التأثير في الآخرين عبر الآليات الجاذبة أو الاستقطابية التعاونية، أو الإقناع». ويختص المعيار الثاني «بنعومة موارد الدولة» أي القدرة على تحقيق الأهداف المرغوبة من خلال جاذبية الدولة وصورتها الذهنية الإيجابية التي تعتمد أساسًا على موارد يغلب عليها الطابع غير المادي؛ مثل ثقافتها ومبادئها وقيمها، وسياساتها الداخلية والخارجية، على نحو يخلق تعاطفًا من الدول الأخرى مع سياساتها وأهدافها.
 
وتنقسم موارد الدولة التي يَغلِب عليها الطابع المعنوي غير المادي بوجه عام، إلى ثلاث مجموعات تعتمد على:
ثقافة الدولة المُتضمِنة للعناصر الجاذبة في قيم المجتمع العليا أو النخبوية، كالأدب والفن والتعليم، والشعبوية التي تُمْتع الجماهير كالإعلام والمسلسلات وأنماط استهلاك الطعام والملابس، وغيرها، القيم السياسية للدولة (المطبقة داخليًا وخارجيًا) التي تُقاس في غالب الأحيان بمؤشرات الديمقراطية والحوكمة الرشيدة، سياسات الدولة الخارجية إذا كانت ذات سلطة معنوية أخلاقية، تبتعد عن الانفرادية وتتسم بالعدالة والإنصاف. 
 
ومن هذا المنطلق، تعتمد القوة الناعمة بالأساس على ثقافة قومية وسياسات جاذبة. غير أن التوجهات الحديثة في هذا الشأن، توضح إمكانية أن تكون موارد القوى الصلبة أو المادية أحد موارد القوة الناعمة. فقد تنتج الجاذبية والاستمالة عن مصادر عسكرية أو اقتصادية، من خلال إعجاب الآخرين بصورة الدولة كنموذج للنجاح الاقتصادي، ودورها في تقديم مساعدات التنمية المستدامة ودعم أهدافها، أو الإعجاب بالدولة كنموذج للتفوق العسكري وتوظيفه لأغراض إنسانية مشروعة.
 
الصناعات الإبداعية والثقافية
 
تُعد «الصناعات الإبداعية والثقافية» المصدر الرئيس لإنتاج القوى الناعمة لبلد ما، وهي تعتمد من حيث المبدأ على توفر رأس مال بشري «مُبدع» قادر على التطوير والتحديث والابتكار. فهي تُنتج سلعًا وخدمات رمزية، مثل: الأفكار والرؤى والتجارب والصور والموسيقى والفنون بأنواعها، بالارتكاز على أصول غير ملموسة. حيث تعتمد قيمة المنتج في هذه النوعية من السلع والخدمات الرمزية على فكر المستهلك النهائي (المشاهد، أو المستمع، أو المستخدم بشكل عام) للشفرة، أو الفكرة، أو المعنى المتضمَّن في المنتج.
 
أنواع الصناعات الإبداعية والثقافية
 
في ظل تزايد الدور الابتكاري والمعرفي والتنموي للصناعات الإبداعية والثقافية، قام عدد من المؤسسات الدولية والإقليمية بالمفاضلة بين نوعياتها، ووضع التصنيفات الملائمة لها؛ بهدف صياغة خططها الإنمائية ورسم سياساتها للعلوم والتكنولوجيا والابتكار. وتتبنَّى منظمة الأونكتاد (UNCTAD) على سبيل المثال، تقسيمًا رباعي الأبعاد يفرِّق بين المنتجات الثقافية، والفنون الاستعراضية والبصرية، والوسائط السمعية والبصرية والرقمية، وخدمات التصميم والخدمات الإبداعية الأخرى. ويفرِّق شكل (١) في تناوله للمنتجات الثقافية بين التراث الثقافي (مثل الحرف الفنية، والتعبير عن التقاليد، والمهرجانات الثقافية، والمسارح الشعبية)، والمواقع الثقافية (مثل المواقع الأثرية والمتاحف، والمكتبات، والمعارض). ويقسِّم البعد الثاني المنتجات الإبداعية إلى الفنون الاستعراضية (مثل: المسرح، والموسيقى، والماريونت، والرقص)، والفنون البصرية (مثل الرسم، والنحت، والتصوير). أما البعد الثالث للمنتجات الإبداعية فيختص بالوسائط السمعية والبصرية والرقمية والنشر والطباعة التي تنقسم بدورها إلى وسائط سمعية وبصرية (مثل: التلفاز، والمذياع، والسينما، والمسجلات)، ووسائط النشر والطباعة (مثل الكتب، والمنشورات، ووسائل الإعلام الأخرى)، والوسائط التكنولوجية (مثل: المحتوى الرقمي، والبرمجيات، وألعاب الفيديو)، أما البعد الرابع والأخير فيختص بخدمات التصميم (مثل: الجرافيك، والموضة، والمجوهرات، والديكور)، والخدمات الإبداعية الأخرى (مثل: الإعلان، والعمارة، والخدمات الثقافية الأخرى). ومن أجل قيامها بمهامها القانونية، تتبنَّى المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) تقسيم المنتجات الثقافية والإبداعية إلى: الإعلانات، والأفلام الروائية، والموسيقى، والفنون الاستعراضية، والنشر، والبرمجيات، والتلفاز، والمذياع، والفنون البصرية والجرافيك، بصفتها منتجات تخضع لقواعد حقوق الملكية الفكرية. 
 
الصناعات الإبداعية والثقافية في المؤشرات الدولية
 
تسعى المؤشرات الدولية للتنمية إلى قياس المخرجات الثقافية والإبداعية كأحد مخرجات الابتكار، حيث يقيس الدليل الدولي للابتكار (Global Innovation Index)، ومؤشر المعرفة العالمي (Global Knowledge Index)، معدلات أداء الدول في مجال الابتكار والإبداع من خلال نسبة الصادرات الإبداعية والثقافية إلى إجمالي التجارة الخارجية، وعدد الأفلام الروائية الوطنية المنتجة بالدولة لكل مليون نسمة من السكان، وحجم أسواق الترفيه والإعلان لكل ألف نسمة من السكان، وحجم قطاع الطباعة والنشر وباقي وسائل الإعلام كنسبة من حجم إنتاج الصناعات التحويلية، وصادرات المنتجات الثقافية كنسبة من جملة التجارة الخارجية.
 
وتعكس مؤشرات التنمية الدولية وجود زيادة مضطردة في حجم الطلب على السلع الثقافية والإبداعية والعائد المُتحقق من إنتاجها وتسويقها؛ إذ مثَّلت عوائد الصناعات الإبداعية والثقافية على المستوى العالمي في عام ٢٠١٥ نحو (٢,٢) مليار دولار أمريكي، وفقًا لدراسة اتجاهات المستقبل- القطاع الثقافي الإبداعي، وحققت السوق العالمي لمنتجات القطاع الثقافي نموا سنويًّا بلغ نحو (٧,٣٤%) من الناتج الإجمالي العالمي، مُحققا عائدات تصدير عالمية بلغت (٥,٩) مليار دولار أمريكي، خلال الفترة من ٢٠٠٢ - ٢٠١٥. كما زاد استهلاك السلع الإبداعية بالدول العربية في غرب آسيا بمعدل (٥١٨%)، وفى قارة إفريقيا بمعدل (٢٥٩%) خلال الفترة الزمنية نفسها. وتُشير المؤشرات الدولية إلى أن واردات الدول العربية بشمال إفريقيا وغرب آسيا من السلع والخدمات الإبداعية قد نمَت بنسبة متوسطة تتعدى (٢٦%) خلال السنوات (٢٠٠٥ - ٢٠٠٨)، وهو ما يُمثل فرصًا واعدة لتسويق إنتاج مصر من السلع والخدمات الإبداعية والثقافية حال تَبنيها لاستراتيجيات أكثر جاذبية في هذا المجال.  وقد شهدت الحقبة الأولى من الألفية الثالثة من ناحية أخرى، احتلال الصين للمرتبة الأولى في صادرات السلع الإبداعية والثقافية بحجم (٨٤,٨) مليار دولار، وبمعدل نمو سنوي متوسط يُقدر بنحو (٣,٤%)، في حين جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الثانية بحجم صادرات يصل إلى (٣٥,٠) مليار دولار (أي نحو نصف عوائد الصادرات الصينية)، ومعدل نمو سنوي متوسط (٢,٧%)، تلي ذلك في الترتيب ألمانيا بحجم صادرات (٣٤,٤) مليار دولار ومعدل نمو سنوي متوسط يقدر بنحو (٢,٤٤%).
 
كما تُشير مؤشرات التنمية العالمية إلى أن الدول التي حققت معدلات أداء مرتفعة في مجالات التقدم العلمي والتكنولوجي والمعرفي، توجِّه نسبة عالية من إنفاقها الرأسمالي لصالح الأصول المنتجة للقوى الناعمة؛ إذ مثّلت الصناعات الإبداعية والثقافية بالولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال نحو (٧,٧٥%) من الناتج المحلي الإجمالي في بداية الألفية الثالثة، كما ساهمت في توفير ما يقدر بنحو (٥,٩%) من فرص العمل على المستوى القومي. وقد ساهمت الصناعات الإبداعية والثقافية بالمملكة المتحدة بالمثل في إنتاج عائد بلغ (١١٢) بليون جنيه إسترليني في عام (٢٠٠٢)، بينما أتاحت هذه النوعية من الصناعات ما يعادل (١,٣) مليون فرصة عمل. ويتضح من المؤشرات السابقة بوجه عام، أن أسواق السلع والخدمات الإبداعية والثقافية تُمثل شريحة من حجم الطلب العالمي تتسع بمرور الوقت، وبما يُوفِّر فرصًا ملائمة لعودة الريادة المصرية في مجال القوى الناعمة، بعد التراجع الذي شهدته السنوات الماضية.
 
الصناعات الإبداعية المصرية 
 
توضح مؤشرات الاقتصاد والتكنولوجيا الدولية، أن أداء مصر يمثل نقطة انطلاق مناسبة نحو تطوير قواها الناعمة وزيادة إنتاجها من الصناعات الثقافية والإبداعية، ومن ثمَّ عودة دورها الرائد في محيطها الإقليمي، إذ تحتل مصر المرتبة الـ (٤٣) في مؤشر صادرات الخدمات الإبداعية والثقافية، والمركز الـ (٣٩) في مؤشر صادرات السلع الإبداعية بمؤشر المعرفة العالمي في عام (٢٠١٨). في حين تُقدَّر معدلات أدائها بدليل الابتكار العالمي بالمرتبة الـ (٢٨) من ضمن (١٢٦) دولة في مجال السلع الإبداعية في عام (٢٠١٨)، ومن ثمَّ تَعْتبر التقارير الدولية للإبداع والابتكار هذا الأداء كإحدى نقاط التميز النسبي في مجال القوى الناعمة. بيد أن تَحقُّق ذلك يتطلب بالمثل زيادة استثمارات مصر في الأصول غير الملموسة الأخرى المرتبطة بمجالات القوى الناعمة، مثل حقوق الملكية الفكرية (حققت مصر المركز ال ٦٩ عالميًا)، وإنتاج العلامات التجارية (احتلت مصر المركز ١٠١دوليًا)، والتصميمات الصناعية (جاء ترتيب مصر في المرتبة ٥٧ على المستوى العالمي).
 
ويتضح مما سبق أهمية صياغة مصر لاستراتيجية تنموية ورسم سياسات من شأنها تأكيد تميزها النسبي في مجال القوى الناعمة، من خلال زيادة حجم إنتاجها وصادراتها من السلع والخدمات الإبداعية والثقافية، بهدف عودة تأثيرها الثقافي في محيطها العربي والشرق أوسطي، ودعم جهودها لتحقيق استدامة النمو والارتقاء بمعدلات الإنتاجية، وهو ما سينعكس بالضرورة على مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مصر.

تقييم الموقع