أولًا: مقدمة:
من المعروف أن جميع مكونات النظام البيئي الرقمي مهمة جدًا بالنسبة للاقتصادات النامية، وخصوصًا مصر، وبالتالي من المهم إدراك أن التحول الرقمي الناجح سيؤدي إلى أرباح ناجحة عبر العديد من القطاعات الاقتصادية، حيث تتحمل الحكومة المصرية على عاتقها مسؤولية تهيئة بيئة تمكينية تتسم بسياسات ولوائح تعزز التحول الرقمي.
ويمثل الالتزام السياسي على أعلى مستوى، ضمانا لاستقرار بيئة السياسات وإمكانية التنبؤ بها، وتعزيز البيئة المستدامة للقطاع الخاص للاستثمار، واعتماد أفضل الممارسات التنظيمية، وتحفيز الطلب على الحلول الرقمية كبديل للحلول الاقتصادية.
وذلك لا بد له من تنامي دور التكنولوجيا في تسيير عمل المؤسسات، والإنتاج الرأسمالي الضخم، وترسيخ مفهوم العولمة، والتحول الرقمي، واقتصاد المعرفة، خصوصًا في ظل تصاعد حركة التنافسية الدولية وصدور تقاريرها والاعتداد بنتائجها.
وفي ضوء ما يشهده العالم حاليًّا من تطور غير مسبوق في رأس المال المعرفي، تطورت مستحدثات العلم وتعاظمت، وتشابهت مخرجات التكنولوجيا وتشابكت، وعليه زادت طموحات البعض وتضخمت، بينما اضمحلت عند البعض الآخر وتراجعت، ومن ثم صار متخذو القرار في معظم المؤسسات الصغيرة والدول الفقيرة في حيرة من أمرهم، بينما صار أقرانهم في المؤسسات الكبيرة والدول المتقدمة في سعادة بالغة ونشوة غامرة؛ نظرًا لما قدمته التكنولوجيا لهم من حلول أشبه بالمعجزات، وما جلبته عليهم من نفوذ، وتدفق في الأموال، وسرعة ودقة في إنجاز الأعمال.
ثانيًا: الشمول المالي خطوة مهمة في مستقبل الاقتصاد الرقمي الجديد:
لقد تبنت مجموعة العشرين هدف الشمول المالي كأحد المحاور الرئيسة في أجندة التنمية الاقتصادية والمالية، واعتبر البنك الدولي تعميم الخدمات المالية وتسهيل وصول جميع فئات المجتمع إليها ركيزةً أساسية من أجل محاربة الفقر وتعزيز الرخاء المشترك. وفي عام 2013، أطلقت مجموعة البنك الدولي "البرنامج العالمي للاستفادة من روح الابتكار من خلال تعميم الخدمات المالية"، مع تركيز إضافي على أنظمة الدفع ومدفوعات التجزئة المبتكرة، كما أطلقت العديد من المؤسسات العالمية، مثل المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء ومؤسسة التمويل الدولية IFC، برامجَ تعمل على تحقيق الشمول المالي.
أما فيما يخص "الشمول المالي في مصر"، فقد توسعت الحكومة المصرية في تطبيقه على نطاق كبير في ظل سياسات التنمية الاقتصادية التي اتبعتها الدولة منذ العام 2014، كما عملت الحكومة على إصدار سياسات وتشريعات تتناسب مع المخاطر المتعلقة بالخدمات المالية المبتكرة، ويشمل ذلك ضمان الشفافية في تسعير الخدمات المالية.
حيث تطور تعريف ومقاييس الشمول المالي وانتقل من تصنيف الأفراد والمؤسسات بشكل بسيط، كمشمولين أو غير مشمولين، إلى تعريفات ومقاييس متعددة الأبعاد، فتعريف مجموعة الـعشرين G20 والتحالف العالمي للشمول المالي AFI ينص على "الإجراءات التي تتخذها الهيئات الرقابية لتعزيز وصول الخدمات المالية واستخدام جميع فئات المجتمع لها، وأن تقدَّم لهم بشكل عادل وشفاف وبتكاليف معقولة"، وتعرف منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD والشبكة الدولية للتثقيف المالي (INFE) الشمولَ المالي بأنه: "العملية التي يتم من خلالها تعزيز الوصول إلى مجموعة واسعة من الخدمات والمنتجات المالية الرسمية والخاضعة للرقابة بالوقت والسعر المعقولين وبالشكل الكافي، وتوسيع نطاق استخدام هذه الخدمات والمنتجات من قبل شرائح المجتمع المختلفة، من خلال تطبيق مناهج مبتكرة، تشمل التوعية والتثقيف المالي، وذلك بهدف تعزيز الرفاهة المالية، وبما يشمل الفئات المهمشة والميسورة، للخدمات والمنتجات المالية التي تتناسب مع احتياجاتهم، والاندماج الاجتماعي والاقتصادي".
أما المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء CGAP فتعرف الشمول المالي بأنه: "وصول الأسر والشركات إلى الخدمات المالية المناسبة واستخدامها بشكل فعال، ووجوب تقديم تلك الخدمات بمسؤولية وبشكل مستدام في بيئة منظمة تنظيمًا جيدًا".
ومن خلال التعريفات المختلفة يمكن ملاحظة عدة محاور أساسية يرتكز عليها الشمول المالي، وهي:
الوصول إلى المنتجات والخدمات المالية: توفّر خدمات مالية رسمية ومنظمة، وقرب المسافة، والقدرة على تحمل التكاليف.
القدرة المالية: إدارة الأموال بشكل فعال، والتخطيط للمستقبل، والتعامل مع الضائقة المالية.
استخدام المنتجات والخدمات المالية: الانتظام والتكرار ومدة الاستخدام.
جودة الخدمات والمنتجات المالية وتجزئة الخدمات من أجل تطويرها لجميع فئات المجتمع.
التنظيم والرقابة الفعالين: بغرض ضمان تقديم المنتجات والخدمات المالية في بيئة يسودها الاستقرار المالي.
تشير قاعدة البيانـات المالية العالمية للبنك الدولي إلى أن حوالي نصف مجموع السكان البالغين ليست لديهم إمكانيـة الحصـول علـى الخـدمات الماليـة التـي تقدمها المؤسسـات الماليـة الرسـمية، فـي حـين نجـد فـي البلـدان المرتفعـة الـدخل حـوالي 81% مـن البــالغين لهـــم حســـاب فـــي مؤسســـة ماليــة رســمية، و40% فقــط فـــي الاقتصـــادات الناميـــة، ومن هنا تبرز أهمية تثقيف المواطنين بأهميـة الحصـول علـى الخـدمات الماليـة، وكيـف يكـون لـديهم خيـارات ماليـة أفضـل، وســـوف يســـاعد ذلـــك في تحســـين النمـــو الشـــامل للـــبلاد، وبالتـــالي فـــإن عمليـــة الحصول على الخدمات المالية بتكلفة معقولة ستحسن مـن حيـاة الفقـراء، ومن هنا فـإن الاسـتبعاد المـالي له أثـر كبيـر علـى النمـو الاقتصـادي، وذلك كما يلي:
انخفاض الوعي المصرفي لدى جمهور المواطنين.
صـعوبة الحصــول علـى الائتمــان أو الحصــول علـى الائتمــان مــن المصــادر غيــر الرسـمية بأسعار باهظة.
الانخفاض العام في الادخار والاستثمار.
ارتفاع معدلات البطالة والتضخم.
تراجع مشروعات القطاع الخاص، وهو المحرك الأساسي لعملية النمو الاقتصادي.
انتشار الفقر والفساد والجريمة وزيادة معدلاتهم.
ضعف الأنظمة المالية والمصرفية وعدم قدرتها على مواكبة التطور التكنولوجي الكبير.
كما شهد العالم على مدى العقود القليلة الماضية ظهور أنماط مختلفة من الخدمات المالية التي تتيح إمكانات جديدة للفقراء، تشتمل على الجمعيات التعاونية، وشركات التأمين، والمنظمات غير الحكومية، وتقتصر هذه الخدمات على البنوك، ومؤسسات التنمية المجتمعية، ومؤسسات الإقراض المتخصصة، ومؤسسات التمويل التأجيري، وغيرها. ومع التطور الهائل في التكنولوجيا وتسارع نقل المعلومات، وظهور العديد من الخدمات المبتكرة التي ساهمت في تنظيم إدارة عمليات القطاعات المالية وتسهيل الوصول للخدمات المالية، ومع تزايد التكنولوجيا الرقمية، سوف يساعد ذلك في تسريع عجلة الشمول المالي.
ولذا، من المهم أن يبدأ التثقيف المالي في المراحل الأولى من التعليم؛ كي يرسخ المفاهيم المالية لدى الأفراد ويحفز الابتكار، فالتثقيف المالي بحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OCED هو "العملية التي يتم من خلالها تحسين إدراك المستهلكين والمستثمرين لطبيعة الخدمات والمنتجات المالية المتاحة والمخاطر المصاحبة لاستخداماتها، وذلك عن طريق تقديم المعلومات والإرشادات أو النصيحة الموضوعية المتعلقة بها، وتطوير مهاراتهم وثقتهم بالخدمات المالية من خلال زيادة وعيهم بالفرص والمخاطر المالية، وليصبحوا قادرين على اتخاذ قرارات مبنية على معلومات صحيحة، وتعريفهم بالجهات التي يمكن التوجه لها في حال إذا احتاجوا للمساعدة واتخاذ خطوات فعالة أخرى، من شأنها تحسين الرفاهة المالية الخاص بهم".
ثالثا: الاقتصاد الرقمي في مواجهة كورونا:
وضعت الأمم المتحدة مجموعة من الأهداف، بحيث يجب تحقيقها بحلول عام 2015، والتي التزمت بها الدول المنضمة إليها لتضع الخطوة الأولى في إطار توجهها نحو الاعتماد على المنتجات الرقمية، ومن تلك الأهداف إقامة شراكة عالمية من أجل التنمية، تتضمن المضي في إقامة نظام تجاري ومالي يتسم بالانفتاح، والتعاون مع القطاع الخاص؛ لإتاحة فوائد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
كما تعهدت الدول الأعضاء بالعمل نحو تحقيق مجتمع معلوماتي من خلال القمة العالمية لمجتمع المعلومات، وهي قمة لزعماء العالم بهدف تسخير إمكانات الثورة الرقمية في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لخدمة البشرية، وهي تمثل عملية تعددية حقيقية لأصحاب المصلحة الذين يشملون الحكومات والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وهدف هذه القمة هو بناء مجتمع معلومات هدفه الإنسان ويتجه نحو التنمية، مجتمع يستطيع كل فرد فيه استخدام المعلومات والمعارف والنفاذ إليها واستخدامها، وتقاسمها، ويتمكن فيه الأفراد والمجتمعات والشعوب من تسخير كامل إمكانياتهم للنهوض بتنميتهم المستدامة ولتحسين نوعية حياتهم .
وتأتي كورونا لتكون صفعة في وجه النظام الرقمي ربما ليستيقظ من غفلته التي تسببت نجاحات التكنولوجيا التجارية اليومية له بها، وسنجد أن مهمة النظام الرقمي أمام فيروس كورونا تختلف عن بقية الأنظمة التقليدية السابقة، حيث إنه لو واجه العالم فيروس كورونا في أي عصر سابق غير عصر النظام الرقمي فلن يكون على ذلك النظام لوم، لأن رأس ماله في العادة يقوم على المال، أما النظام الرقمي فرأس ماله يقوم على البحث العلمي والمعرفة والإبداع الإنساني والإمكانات البشرية، وقد تم تسخير كل الموارد من أجل ذلك، ولذلك فاللوم أكبر هنا والفشل أعمق والمسؤولية مباشرة وعظيمة.
وبالتالي أصبح العالم بعد كورونا يتعامل مع صناعات معرفية تمثل البيانات موادها الأولية، والأفكار منتجاتها، والعقل البشرى أداتها، وحيث إن البشرية بذلك دخلت في عصر جديد يركز على دمج الاختراعات في الاقتصاد، والإبداع في التكنولوجيا، فقد أدى ذلك إلى بزوغ مفاهيم جديدة مثل التعليم عن بعد والتعليم الهجين، حيث إن الطلاب يمثلون الأدوات الحقيقية للتنمية في المستقبل، وهو التحدي الحقيقي الذي واجهته مصر طوال العام ونصف الماضي بقيادة سيادة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي تحت رعاية السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، فقد صار في ضوء كل ذلك لزامًا على الدولة بكل مؤسساتها القيامُ بدور فعَّال في غرس مبادئ الثقافة المعلوماتية تعليمًا وتطبيقًا لدى هؤلاء الطلاب، من خلال دمجها مع برامج إعداد المعلم وتدريبه، وتدريب المتعلم وتجهيزه، وكذا مع المقررات الدراسية، وبرامج الإدارة التربوية، وهو ما يطلق عليه التحول إلى "التعليم الرقمي."
وحيث إن التعليم الرقمي أصبح اليوم في ظل جائحة كورونا التي يمر بها العالم يمثل مطلبًا مهمًّا لحقبة من الزمن صار العالم يطلق عليها "حقبة العصر الرقمي"، فقد وجدت مؤسسات التعليم نفسها أمام العديد من التحديات، منها: ضعف البنية التحتية للاتصالات في مؤسسات التعليم، والحاجة إلى وجود شبكة إنترنت بسرعة مقبولة، وضرورة تدريب المعلمين على استخدام التكنولوجيا المتقدمة في التعليم، وتغيير أدوار المعلم بحيث يصبح مُيسِّرًا للمعلومات، ومُطوِّرًا للمقررات، ومُوظِّفًا للتكنولوجيا، ولديه القدرة على العمل في فريق متكامل وفي خلال فترة زمنية ضيقة نسبيًّا.
إن التعليم من أكثر المهمات خطرًا، وأعمقها اتصالًا بمستقبل المواطنين وطموحاتهم، وأوثقها ارتباطًا بمصالح الناس، ومعايير تقدمهم، فقد تفاقمت المسؤولية الملقاة على عاتق المؤسسات التعليمية في تكوين الجيل الجديد وإعداده للمستقبل، في ظل المستحدثات التكنولوجية والظروف الحالية سالفة الذكر، الأمر الذي يتطلب ضرورة مراجعة النظام التعليمي في إطار مرجعيات وطنية ودولية، بما يدحض مقاومة التغيير المدفوعة من البعض بشعور الأمان، والبحث عن أسباب التقدم والتعامل مع الكوارث والأزمات، وتعزيز برامج الشراكة بين مؤسسات التعليم المصرية والدولية، انطلاقًا من مبدأ المعاملة بالمثل والمنفعة المشتركة.
رابعًا: رؤية أفضل لمستقبل اقتصاد رقمي جديد:
وعلى الرغم من الجهود المبذولة بشكل مستدام من الحكومة المصرية لتعزيز خدمة الاقتصاد الرقمي والتحول الرقمي، فإن هناك بعض الفجوات التكنولوجية التي لا بد من العمل عليها لتسريع خُطى المستقبل المعرفي في مصر في ظل التحديات الجديدة التي يشهدها العالم، وذلك من خلال وضع وتنفيذ استراتيجيات لتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد الحرجة النادرة مثل الطيف وإدارة عناوين بروتوكولات الإنترنت، بما في ذلك الانتقال إلى الإصدار السادس من بروتوكول الإنترنت.
كما أنه لا بد من دعم وضع وتنفيذ استراتيجيات التحول الرقمي على المستويات الوطنية والإقليمية؛ لخلق الطلب وتوسيع المبادرات الرقمية ووضع برنامج لتنمية القدرات لدعم واضعي السياسات والجهات التنظيمية وممثلي القطاع العام، ولا بد من تصميم سياسات تستند إلى نهج شمولي يركز على الإنسان، ويراعي السياق المحلي والقضايا الشاملة ذات الصلة بجميع مراحل تصميم السياسات وتنفيذها، ويجب إعطاء اهتمام خاص للمرأة وإبراز دورها في التحولات الجديدة، وللأشخاص الذين يعيشون في المناطق النائية، والأشخاص ذوي الإعاقة، والمجتمعات المحرومة والمهمشة، من خلال إنشاء منصة للحوار والتماسك الاجتماعي، تشمل أهداف هذه المجموعات، و بالتالي يجب دعم تعزيز التنوع الثقافي عبر الإنترنت لضمان مشاركة كل شخص مشاركة كاملة في المجتمع.