مقدمة عامة:
يثير التطور السريع والتزايد المستمر للقطاع غير الرسمي في المجتمع المصري العديد من التساؤلات المهمة. يأتي على رأسها الآثار الناجمة عن هذه المسالة، وثانيا الأسباب المؤدية لذلك الانتشار السريع رغم الجهود الحكومية العديدة للحد من هذه الظاهرة، وأخيرا كيف يمكن علاج الظاهرة؟
وقبل الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها، تجدر الإشارة إلى أن هناك اختلافا كبيرا بين المهتمين حول مفهوم الاقتصاد غير الرسمي، وتعددت المصطلحات والأسماء التي أطلقت عليه، فهناك الاقتصاد الخفي والاقتصاد السري والاقتصاد التحتي والاقتصاد الموازي واقتصاد الظل وغيرها من المصطلحات العديدة والمتنوعة، ولهذا تنوعت التعريفات التي يتم بها تعريف هذا النشاط، إذ يشير البعض إلى أنه "عبارة عن الدخل غير المسجل، وأنه يتولد من كل الأنشطة التي لا تُدفع عنها ضرائب"، ويشمل هذا التعريف جميع الأنشطة الاقتصادية التي تخضع للضريبة بشكل عام إذا ما أبلغت بها السلطات الضريبية، ووفقا لذلك فإن الاقتصاد غير الرسمي لا يشمل الأنشطة غير المشروعة فقط، بل يشمل أيضا أشكال الدخل التي لا يبلغ بها والمحصلة من إنتاج السلع والخدمات المشروعة، سواء من معاملات نقدية أو المعاملات التي ترتبط بنظام المقايضة.
وفي رأينا، إن هذا التعريف يخلط بين الاقتصاد غير المشروع (مثل الاتجار في المخدرات أو التهريب السلعي والجمركي والاحتيال وغيرها من المعاملات غير المشروعة)، وبين الاقتصاد غير الرسمي، والذي يشمل عددا من الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية التقليدية (مثل الباعة الجائلين ومقدمي الخدمات الشخصية وسائقي سيارات الأجرة وخدم المنازل وغيرهم).
وقد ذهب البعض إلى أن الاقتصاد غير الرسمي يمثل الأصول العقارية والإنتاجية غير المسجلة والأنشطة الاقتصادية السلعية والخدمية غير المقننة، وطبقا لهذا التعريف فإن الاقتصاد غير الرسمي يتمثل في الأصول الإنتاجية والعقارية غير المسجلة (ويقدر حائزو العقارات غير المسجلة بنحو 92% من السكان، أي 64% من جملة الأصول العقارية في مصر).
بينما يشير البعض الآخر إلى أن القطاع غير الرسمي هو الذي لا تتوافر لديه كل أو أي من الشروط المطلوبة للدخول إلى السوق، وبالتالي يعتبر الإطار القانوني والمؤسسي الحاكم للاقتصاد الرسمي هو الدافع الرئيس لعمل المنشآت خارجه لتجنب العوائق المختلفة التي يفرضها.
وفي الآونة الأخيرة، بدأ البعض في مناقشة هذا المفهوم وفقا للأوضاع في سوق العمل، حيث يركز البعض على علاقات العمل غير الرسمية في المنشآت الرسمية وغير الرسمية، بحيث يشمل العمالة بدون أجر في المنشآت غير الرسمية والعمالة بأجر بدون عقود رسمية أو تأمينات اجتماعية في المنشآت الرسمية وغير الرسمية .
وقد حاول قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 تحديد الأنواع المختلفة للعمالة، فأشار في المادة (26) إلى أن العمالة غير المنتظمة تشمل عمال الزراعة الموسمية، وعمال البحر، وعمال المناجم والمحاجر، وأعمال المقاولات، وقد جاء في هذه المادة أن بيان هذه العمالة لم يأت على سبيل الحصر، بمعنى أن للحكومة أن تضيف لها فئات أخرى ترى ضرورة إدراجها، أما العمالة المؤقتة فهي العمالة التي تقوم بعمل يدخل بطبيعته فيما يزاوله صاحب العمل من نشاط وتقتضي طبيعة إنجازه مدة محددة أو ينصب على عمل بذاته وينتهي بانتهائه. أما العمالة الموسمية فهي العمالة التي تقوم بالعمل في مواسم دورية متعارف عليها، أما العمل العرضي فهو العمل الذي لا يدخل بطبيعته فيما يزاوله صاحب العمل من نشاط ولا يستغرق إنجازه أكثر من ستة أشهر، وهناك فئات أخرى استعرضها قانون العمل في الباب الخاص بالأجور من العمالة الشهرية التي تتقاضى أجورًا شهرية، أو العمالة اليومية التي تتقاضى أجورا يومية، أو العمالة التي تعمل بالإنتاج، وحدد كيفية حصول كل منهم على أجره.
أولًا: أوضاع القطاع غير الرسمي :
عند محاولتنا رسم خريطة لهذا القطاع داخل الاقتصاد القومي، فإنه تجب التفرقة بين التعداد الاقتصادي وبحث القوى العاملة، إذ إن التعداد يرصد المنشآت داخل القطاع الخاص المنظم، وبالتالي فهو يختلف عن تعداد سوق العمل الذي يتعامل مع القطاع خارج المنشآت، وبعبارة أخرى، فإن القطاع غير الرسمي وفقا للتعداد الاقتصادي يشمل الوحدات الإنتاجية التي تزاول نشاطا اقتصاديا (صناعيا– تجاريا – خدميا- إلخ)، وليس لها أي تسجيل إداري، أو التي تمارس عملها دون ترخيص من الجهات الرسمية ولا تحمل أي شكل قانوني من حيث الإجراءات اللازمة لممارسة النشاط، وهو بالتالي يختلف عن العمالة خارج المنشآت وفقا لبحث القوى العاملة، كما تجدر الإشارة إلى أن التعداد الاقتصادي لا يتناول القطاع الحكومي وكذلك الهيئات الاقتصادية، كما أنه لا يشمل العمالة الزراعية وكذلك القطاع الخاص خارج المنشآت.
ويشير التعداد الاقتصادي إلى أن عدد المنشآت العاملة في القطاع غير الرسمي بلغ 2 مليون منشاة بنسبة 53% من إجمالي المنشآت العاملة في مصر عام 2017/2018 مع ملاحظة أن 59.4% منها تعمل في تجارة الجملة والتجزئة، تليها الصناعات التحويلية بنسبة 14.1%، وهي في معظمها منشآت صغيرة ومتناهية الصغر؛ حيث تصل نسبة المنشآت التي يبلغ رأس مالها المستثمر أقل من 100 ألف جنيه نحو 81% من الإجمالي، تليها المنشآت الأقل من 200 ألف جنيه، وأكثر من 100 ألف بنسبة 18%، ولذلك فإن نسبة المنشآت التي يعمل بها أقل من 5 أشخاص تصل إلى 96% من الإجمالي، تليها المنشآت التي تستخدم من 5 إلى أقل من 10 أشخاص بنسبة 4%، ولذلك يتم أخذ نحو 95% منها شكلَ المنشأة الفردية من الناحية القانونية، كما يشير التعداد إلى أن نحو 72% من هذه المنشآت تم إنشاؤها بعد عام 2010.
بينما، وعلى الجانب الآخر، يشير بحث القوى العاملة إلى أن نسبة المشتغلين خارج المنشآت تصل إلى 44% من إجمالي المشتغلين بالمجتمع عام 2020، مقابل نحو 35% لدى القطاع الخاص المنظم، ونحو21% في القطاع الحكومي وقطاع الأعمال العام، وبعبارة أخرى فإنه يشكل النسبة الغالبة من المشتغلين في سوق العمل ككل، وترتفع هذه النسبة بشدة داخل الريف الذي يستحوذ على 60% من المشتغلين.
وذلك بعد أن اتسع هذا القطاع بشدة في المرحلة الراهنة، وأصبح يضم شرائح عريضة من المجتمع مثل العاملين في الورش الصغيرة أو الأعمال اليدوية، والحرفية، بالإضافة إلى الباعة الجائلين، وعمال التراحيل الذين ليس لهم مكان عمل إلا بالشارع، مع ملاحظة أن 44% من هؤلاء يعملون بالقطاع الزراعي، ونحو 26.4% يعملون بقطاع التشييد والبناء، و16.2% في قطاع النقل والتخزين.
وعلى الجانب الآخر، فإن نحو 48.7% يعملون عملًا دائمًا مقابل 47.9% يعملون عملًا متقطعًا، وعلى النقيض، نجد أن 84.4% ممن يعملون في القطاع الخاص المنظم يعملون عملًا دائمًا و1% فقط يعملون عملًا متقطعًا، وتكمن خطورة هذا الوضع في أنه قد بدأ يستوعب قطاعات جديدة من الشباب، خاصة خريجي الجامعات والمعاهد العليا، ليضافوا إلى قوته الأساسية المتمثلة في المنتقلين من الريف المصري إلى المدن أو العائدين من الخارج، كما أدى التوسع في هذا القطاع إلى الاعتماد على العمالة متوسطة المهارة بالأساس، أي الشريحة التعليمية الأقل، واشتغال العديد من الأفراد في وظائف ومهن لا علاقة لها بمؤهلاتهم العلمية، وهي أمور تؤثر في النسيج الاجتماعي للوطن.
إذن، لم يعد هذا القطاع مجرد احتياطي للقطاع المنظم، بل أصبح فاعلًا أساسيا بالأسواق، وبمعنى آخر فإنه لم يعد يستوعب العمالة الإضافية التي لا تجد مكانا لها بالسوق النظامية، كما كان سائدًا من قبل، بل أصبحت العمالة تتجه مباشرة إلى هذه السوق، وهنا مكمن الخطورة، خاصة إذا أضفنا إليها انسحاب البعض من سوق العمل وتراجع معدل التشغيل إلى نحو 39%.
وغني عن القول أن معظم هؤلاء من الفقراء؛ حيث يشير بحث الدخل والإنفاق إلى أن 51% من الفقراء المشتغلين يعملون في القطاع غير الرسمي مقابل 37% في القطاع الخاص المنظم و12% في القطاع الحكومي ، كما ارتفعت نسبة الفقراء بين العاملين في القطاع غير الرسمي من 39.3% عام 2017/2018 إلى 43.1% عام 2019/2020، وتكمن خطورة هذا الوضع ليس فقط في عدم الاستقرار الداخلي لسوق العمل، ولا لصعوبة وضع أو رسم سياسات محددة من جانب متخذي القرار في المجتمع، ولكن لصعوبة تنظيم الأوضاع بداخله مع ما يتلاءم مع احتياجات المجتمع، هذا فضلًا عن الظروف السيئة التي يعمل فيها هؤلاء، فمعظمهم يعملون بدون عقود رسمية؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن 1% فقط ممن يعملون بأجر داخل القطاع يعملون بعقود قانونية، ونحو 27.3% منهم يعملون عملا دائما، فضلًا عن أن 11% تقريبا مشتركون في التأمينات الاجتماعية و 3.2% في التامين الصحي.
وتشير الدراسات العلمية التي أجريت على هذا القطاع إلى أن هناك العديد من العوامل التي أدت إلى انتشاره في البلاد، مثل صعوبة الدخول والخروج من الأسواق، وارتفاع تكلفة هذا الدخول، وغيرها من العوامل، مثل: تعقد إجراءات الاقتصاد الرسمي (الدخول والخروج من النشاط)، وزيادة أعباء الاقتصاد الرسمي (الأعباء الضريبية – التأمينات الاجتماعية)، فضلًا عن الشروط الصحية والبيئية.
وهي الظاهرة التي تحتاج إلى الدراسة والتحليل للوقوف على مدى الآثار التي يمكن أن تنجم عن ذلك، سواء على مستوى معيشة الأفراد أو على العملية التنموية بالبلاد.
ثانيًّا الآثار الناجمة عن نمو الاقتصاد غير الرسمي:
عمومًا، وفي ضوء الواقع المصري المعاش، والذي يتسم بعدم وضوح ملامح القطاع وعدم وجود تعريف مستقر عليه؛ فإننا يجب أن نفرق بين "المشروع الصغير" و" المشروع الصناعي الصغير"، فالأول يهدف إلى خفض نسب الفقر، ورفع مستوى معيشة الأفراد وإيجاد فرص عمل، وهي مشروعات يندرج تحت عباءتها العديد من الأنشطة، مثل تجارة التجزئة والبقالة والمخابز البلدية والمطاعم والمقاهي وقطع غيار السيارات ... إلخ، أما النوع الثاني، والذي يعد الركيزة الأساسية للتنمية الصناعية، وذلك في ضوء العلاقات التشابكية بين هذا القطاع والمؤسسات الإنتاجية الكبرى، وهو ما يعرف بالصناعات الخفيفة والمغذية، والتي تكتمل بها المنظومة الإنتاجية، لهذا فإن هذا القطاع يحقق قيمة اقتصادية مضافة، ويسهم في التطوير التكنولوجي المطلوب.
وقد تراوحت الآراء بشدة عند دراسة الآثار الناجمة عن نمو هذا القطاع؛ إذ يرى البعض أنه حقق العديد من الآثار الإيجابية على المجتمع والمواطن، وعلى رأسها استيعاب قدر لا بأس به من العمالة الداخلة إلى سوق العمل، وهي مسألة مهمة في ضوء ما يعانيه المجتمع من بطالة مرتفعة، هذا فضلًا عن رخص المنتجات التي يقوم بإنتاجها وبيعها بالأسواق المحلية، وهي مسألة ضرورية ومهمة في ضوء انخفاض مستويات الدخول لقطاع لا بأس به من المجتمع، ناهيك عن سهولة التعامل.
بينما يرى البعض الآخر، ونحن منهم، أن الآثار السلبية الناجمة عن هذا القطاع تفوق بكثير الآثار الإيجابية له، ومنها رداءة المنتجات وضعف الإنتاجية والفن التكنولوجي وضعف المنافسة، والأضرار الصحية والبيئية، ناهيك عن تأثيراته السلبية على أداء الوحدات الحكومية، مثل هبوط مستويات هذا الأداء، خاصة في القطاعات الاجتماعية المهمة كالتعليم والصحة، كما ترتب عليها العديد من المشكلات مثل كثرة التغيب عن العمل بسبب الجمع بين وظيفتين، وأيضًا ظهور العديد من المشكلات الاجتماعية الأخرى.
في ضوء ما سبق أصبحت هناك مدرستان للتعامل مع هذا الأمر، هما:
المدرسة الأولى: ترى تركه كما هو دون المزيد من الضغوط مع توفير المناخ الملائم للتخلص من آثاره السلبية؛
نظرًا لأهميته الشديدة في المجتمع وقدرته العالية على التشغيل، هذا فضلًا عن قدرتها على إنتاج السلع والخدمات بأسعار مناسبة تتلاءم مع مستويات الدخول في المجتمع؛ لذا تزايد الحديث خلال الأعوام الأخيرة عن ضرورة الاهتمام بدعم وتنشيط هذه المشروعات، ورفع كفاءتها بما يؤهلها للقيام بالمهام التنموية المنوطة بها، خاصة أن المشروعات الصغيرة هي بالفعل النمط الغالب للمشروعات في مصر، وفي هذا السياق، يرى البعض أنه من الأفضل العمل على تنقية القوانين الحالية مما يشوبها من عوائق تحول دون تفعيل دور هذا القطاع في الاقتصاد القومي؛ حيث إن كثرة القوانين تؤدى إلى تعقيد الموضوع وليس تبسيطه، هذا فضلًا على أن المزايا والتسهيلات التي يمكن أن تمنح لهذا القطاع يمكن دمجها في القوانين المعمول بها حاليًّا، مثل قانون الضرائب والتأمينات.. إلخ.
وعلى النقيض من ذلك، يرى البعض أن هذا القطاع في حاجة إلى دفعة قوية تتجاوز مجرد تعديلات هنا أو هناك على القوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي والقائمة بالفعل، وبالتالي فهناك ضرورة قصوى لإصدار تشريع موحد تنظم فيه كافة الأمور المتعلقة بهذا النشاط، إذ إن ذلك سيحقق وضوحا في الرؤية ويسهل معرفة الحقوق والواجبات، وهذا يتناسب تمامًا مع طبيعة العاملين في هذه الأنشطة؛ فإذا كان المطلوب هو تنظيم وتطوير وتحديث هذا القطاع؛ فإن الأمر يتطلب بالضرورة وضوح الرؤية والسياسات الخاصة به، وتوحيد جهة الإشراف والرقابة والمتابعة في جهة واحدة، وهو ما يتطلب بالأساس مشاركة كافة المعنيين في المجتمع من حكومة وقطاع خاص ومجتمع مدني وأهلي في صياغة ووضع الأطر المناسبة لتدعيم هذا القطاع.
المدرسة الثانية: ترى ضرورة العمل على دمجه في الاقتصاد الرسمي:
حيث إن هذا القطاع هو المستوعب الرئيس للفقراء، فلا بد من العمل على تنمية مهارات العاملين به وتوفير الحماية والضمان الاجتماعي لهم، ويكون ذلك من خلال سياسات طويلة الأجل تهدف في النهاية إلى تحويل هذا القطاع إلى القطاع الرسمي، وذلك عن طريق توفير الحماية الاجتماعية والصحية والتأمينية للعاملين بهذا القطاع.
وتتمثل السياسات قصيرة الأجل في توفير المعلومات الخاصة عن حجم هذا القطاع، من خصائص العاملين به الشخصية والتعليمية والمهنية والأنشطة الاقتصادية التي يعملون بها وتوفير قنوات التمويل اللازمة مع تنوعها بما يناسب طبيعة العاملين بهذا القطاع.
ولذلك، فإن أي محاولة للتطوير يجب أن تسعى لتسهيل إجراءات التعامل مع الجهات الحكومية وتوحيدها، وتشجيع الاستثمار في الطاقات الإنتاجية للمشروعات الصغيرة، وتشجيع التوسع في التشغيل ورفع مستوى الإنتاجية ومساندة المشروعات التصديرية عن طريق تشجيع المشروعات التي تملك قدرة على المنافسة والعمل على رفع كفاءة وقدرة هذا القطاع على تقديم السلعة والخدمة بالجودة والكفاءة المطلوبة، ومد الحماية الاجتماعية والصحية للعاملين في القطاع غير الرسمي والعمل على وصول خدمات الرعاية الصحية الأساسية لهم، مع الاهتمام بتشجيع الصناعات الريفية والصناعات التصديرية في القطاع الريفي.
خاتمة :
لا شك فيه أن التغييرات الهيكلية التي يتم تطبيقها منذ فترة تتطلب بالضرورة إجراءات مساندة للفئات الهامشية ومحدودي الدخل، وذلك انطلاقا من كون السياسة الاقتصادية يجب أن تظل في خدمة الأفراد والمجتمع؛ فرفع معدلات النمو وحدها ليس كافيا لانتشال الفقراء ومحدودي الدخل، إذ يجب أن يكون نموًا مواليًّا للفقراء وموسعًا لقدرتهم وفرصهم وخيارات حياتهم، وذلك في إطار يهدف إلى توفير السلع الأساسية والضرورية للمواطنين، خاصة محدودي الدخل بأسعار في متناول أيديهم.
وعلى الرغم من الجهود العديدة في هذا المجال، فإنها لا تزال في حاجة إلى المزيد من السياسات والإجراءات المكملة لها، والتي يمكن أن تساعد على النهوض بهذا القطاع ومواجهة التحديات الكبرى التي تواجهه، وعلى رأسها المنافسة الشديدة في الأسواق المحلية، خاصة من جانب السلع المستوردة، وضعف الإمكانات ونقص الخبرات الفنية والتدريبية والتسويقية، وضعف ملاءمة البيئة التنظيمية، فضلًا عن تعقد الإجراءات والجهات التي يتعامل معها هذا القطاع.
كل هذه الأمور وغيرها توضح لنا أهمية العمل على تنظيم عمل هذه الفئة بغية انتشالها من براثن الفقر والعشوائية، وجعلها جزءًا من قطاع المشروعات الصغيرة، نظرًا لقدرتها العالية على العمل وامتلاك البعض لروح المبادرة والابتكار؛ لذا يصبح من الضروري الاهتمام بدعمهم وتنشيطهم ورفع كفاءتهم بما يؤهلهم للعمل داخل الأسواق، وهو ما يتطلب العمل على عدة محاور أساسية يأتي على رأسها إصلاح البيئة التشريعية، فعلى الرغم من الجهود العديدة والإنجازات الحكومية في هذا المجال، فإنه يجب تفعيل قانون رقم 152 لسنة 2020 بشأن المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، خاصة فيما يتعلق بالمزايا الضريبية والجمركية، وكذلك قانون تنظيم وتشجيع عمل وحدات الطعام المتنقلة رقم 92 لسنة 2018، ورغم بعض التحفظات عليه فإنه يعد نموذجا يمكن الاهتداء به، مع ضرورة تلافي المشكلات الناجمة عن تطبيق القانون المشار إليه، خاصة فيما يتعلق بارتفاع قيمة الرسوم وتعدد الإجراءات الحكومية، وبالتالي فهناك ضرورة قصوى لإصدار تشريع موحد تنظم فيه كافة الأمور المتعلقة بهذا النشاط، إذ إن ذلك سيحقق وضوحا في الرؤية ويسهل معرفة الحقوق والواجبات، وهذا يتناسب تمامًا مع طبيعة العاملين في هذه الأنشطة، والعمل على توفير الحماية الاجتماعية والصحية والتأمينية لهم، ومن الأمور المهمة أيضًا ما جاء به قانون التأمينات الجديد من ضم القانون رقم 112 لسنة 1980 والقاضي بالتأمين الاجتماعي الشامل على العمالة غير المنتظمة، إلى المنظومة، ورغم صحة هذا التوجه، فإن يتطلب سرعة إصدار تشريع متكامل وموحد للحماية الاجتماعية يأخذ بعين الاعتبار بعض الفئات التي لن تستطيع المساهمة في هذا النظام، خاصة بعد أن ارتفعت قيمة الاشتراك إلى 9% من الحد الأدنى لأجر الاشتراك، أي 79 جنيها شهريا مقابل 28 جنيها حاليًّا، وهي كلها أمور تشير إلى أن حماية العمالة غير المنتظمة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كافة التغيرات التي شهدها المجتمع، بما يحقق الهدف الأساسي وهو ضمان حياة كريمة لهذا القطاع.