أصبحت إدارة المعرفة جزءًا لا يتجزأ من أي مؤسسة، فهي تُعد أحدث عوامل الإنتاج التي يُعترف بها كمصدر أساسي للميزة التنافسية في المؤسسات.
أساسيات إدارة المعرفة
نعيش في عالم سريع التغيُّر تقوده العولمة والاقتصاد القائم على المعرفة، مقرونًا بالتطور السريع للمعلومات والاتصالات والتكنولوجيا (Information and communications Technology, ICT)، وهذا التغيير لا يطرح تحديات فحسب، بل يوفر أيضًا فرصًا للقطاعين الخاص والعام على حد سواء؛ من أجل اكتساب مزايا تنافسية للبقاء وتعزيز الكفاءة لمواجهة الأزمات والتغيير البيئي المستمر.
يُعد القطاع الخاص سبَّاقًا في طرح توجهات وأنظمة إدارية جديدة، فدائمًا ما تتبنى معظم الشركات الكبرى في القطاع الخاص أدوات وفلسفات إدارية جديدة ثم تحذو الحكومات حذوها، مثل: تخطيط موارد المؤسسة
(Enterprise Resource Planning, ERP)، وإعادة هندسة عمليات الأعمال (Business Process Re-engineering, BPR)، وإدارة الجودة الشاملة (Total Quality Management, TQM)، وإدارة المعرفة (Knowledge Management, KM).
فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إدارة المعرفة وأهميتها، ويمكننا أن نصف إدارة المعرفة (KM) بأنها عملية تعني بتطوير، وتخزين، واسترجاع، ونشر المعلومات والخبرات داخل المنظمة؛ لدعم وتحسين أداء أعمالها، وأصبحت المنظمات تدرك أن المعرفة هي مورد أساسي لها ويجب إدارتها بحكمة. كما تحتاج المنظمات إلى تسخير المعرفة ليس فقط لتبقى، ولكن أيضًا لتصبح منظمات ابتكارية.
وتتطلب إدارة المعرفة تحولًا كبيرًا في الثقافة التنظيمية والتزامًا على جميع مستويات الشركة لإنجاحها، وتفتح آفاقًا جديدة لمفاهيم إدارية مهمة في الوقت الراهن، مثل تطوير رأس المال الفكري الذي يعزز قدرات المنظمات على خلق قيم جديدة للخدمات والمنتجات، كما تعمل على خفض التكاليف وتقليل الفترات الزمنية اللازمة لإنجاز المهام والوصول إلى أهداف المنظمة، فرأس المال الفكري قضية مهمة ومورد متجدد يحتاج إلى تفعيل واستغلال، وبمجرد تبني هذا الفكر الإداري الحديث، سندفع إلى التركيز على المهارات القائمة على الابتكار، وتفسير البيانات والمعلومات والعمل على استغلالها للتطوير والنمو.
إدارة المعرفة مصطلح يخلق جدلًا
كان مفهوم إدارة المعرفة قيد الممارسة لفترة طويلة بطريقة غير رسمية أو منهجية، ثم تطور ليصبح من الممارسات المهمة في علم الإدارة، ولكن استمر الخلاف على تعريف المصطلح فترة من الزمن، وقد أدى عدم وجود إجماع في تحديد المقصود بالمصطلح إلى ارتباك كبير انعكس في الدراسات المختلفة في هذا المجال، ولفهم مفهوم إدارة المعرفة، يجب التمييز أولًا بين البيانات، والمعلومات، والمعرفة، لتوضيح الالتباس حول الاختلافات والعلاقات في هذه السلسلة المتصلة.
فغالبًا ما يتم استخدام المصطلحين «معلومات» و «بيانات» بالتبادل مع مصطلح “المعرفة”، ولكن في الحقيقة يحمل كل مصطلح معاني مختلفة عن الآخر، ومن ثمَّ نجد أن فهم الاختلافات أمر ضروري للقيام بالعمل المعرفي بنجاح. وبشكل عام، فالبيانات هي حقائق أولية، ولكي تكون البيانات ذات قيمة، يجب معالجتها (وضعها في سياق معين) للحصول على المعلومات، ويُنظر إلى المعرفة على أنها معلومات مفيدة، والعلاقة بين البيانات والمعلومات والمعرفة متكررة وتعتمد على درجة «التنظيم» و«التفسير»؛ حيث يتم تمييز البيانات والمعلومات من خلال «تنظيمها»، ويتم التمييز بين المعلومات والمعرفة بواسطة «التفسير» لذا فإن المعرفة ليست بيانات ولا معلومات. إنما هي فهم، ويكتسبها المرء من خلال الخبرة والاستدلال والحدس والتعلم، فعلى سبيل المثال يوسع الأفراد معرفتهم عندما يشارك الآخرون معارفهم، ويتم دمج معرفة الفرد مع معرفة الجماعة لإنشاء معرفة جديدة؛ وليس، مما يصب في مصلحة المنظمة. فالمعرفة مشتقة من المعلومات وتنتج عن إجراء المقارنات وتحديد العواقب وإقامة الروابط، يدرج بعض الخبراء الحكمة والبصيرة في تعريفاتهم للمعرفة، وبالتالي يمكن القول إن الحكمة هي الاستفادة من المعرفة المتراكمة، كما تشمل المعرفة أيضًا «القواعد الأساسية» التي تم تطويرها بمرور الوقت من خلال التجربة والخطأ.
أما إذا أردنا طرح تعريف لإدارة المعرفة، يمكن القول بأنها أحد علوم الإدارة الذي يهتم بـ «قدرة المنظمة على استخدام معرفتها الجماعية من خلال عملية توليد المعرفة والمشاركة والاستغلال التي تتيحها التكنولوجيا لتحقيق أهدافها».
إدارة المعرفة جزء لا يتجزأ من أي مؤسسة
يشهد عقد من الممارسة في الشركات الخاصة أن إدارة المعرفة ليست مجرد توجه إداري كما ادعى بعض النقاد، فقد اجتازت إدارة المعرفة مرحلة الوجود غير الفعال، والآن يتم تطبيقها ودمجها في المنظمات والشركات بالقطاع الخاص، ولقد حان الوقت ليتم تطبيق إدارة المعرفة في هيئات ومؤسسات القطاع العام؛ نظرًا لدورها المتداخل بشدة في صميم المهام الحكومية -فلا يمكن فصلها عن وضع الاستراتيجيات والتخطيط والتوجيه والتشاور واتخاذ القرارات وتنفيذ المشروعات والبرامج القومية- فقد أصبحت الحكومات حول العالم تدرك أهمية إدارة المعرفة في صنع السياسات وتقديم الخدمات للمواطنين، وبدأت بعض الإدارات الحكومية بالفعل في وضع إدارة المعرفة على رأس جدول أعمالها، وتوجيه التفكير إلى وضع استراتيجيات وخطط تنفيذ ودمج إدارة المعرفة في الأعمال الحكومية.
في هذا السياق، هناك قضايا محددة يتعين على الحكومات النظر فيها مرتبطة بطرح تقنيات وفلسفات إدارة المعرفة، مثل رأس المال الفكري، ودور الثقافة التنظيمية، وخلق المعرفة وتبادلها، هذا بالإضافة إلى استراتيجية إدارة المعرفة وتدوينها ودور التكنولوجيا في تعزيز ذلك، وأيضًا تخزين البيانات واستخراجها، وأهم المكونات الرئيسة لممارسة إدارة المعرفة الناجحة هي زيادة الوعي للعنصر البشري داخل القطاع الحكومي ليس فقط للمديرين على جميع المستويات، ولكن أيضًا لموظفي الخطوط الأمامية؛ فيجب نشر مفهوم إدارة المعرفة وفوائدها بشكل أفضل لكل شخص في المنظمة حتى تكون المنظمة جاهزة لممارسة مفاهيم إدارة المعرفة وتطبيقها.
نحو اقتصاد قائم على إدارة المعرفة
إن المعرفة هي الأصل الجديد، وهي أحدث عوامل الإنتاج التي يُعترف بها كمورد أساسي لإنشاء الثروة الاقتصادية، ومصدر أساسي للميزة التنافسية في المؤسسات، فالاقتصاد التقليدي قائم على افتراضات أن عوامل الإنتاج هي التي تنشئ الثروة، أما في الاقتصاد الحديث، فإن المعرفة هي عامل الإنتاج الأكثر قيمة وهي النوع الجديد من رأس المال القائم على الأفكار والخبرات والممارسات الأفضل، أي إن رأس المال الفكري يُعد أكثر أهمية في الاقتصاد الحديث من رأس المال المادي.
ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (Organization of Economic Cooperation and Development, OECD)، تكتسب إدارة المعرفة أهمية متزايدة بالنسبة للحكومات في التعامل مع التحديات التي يخلقها اقتصاد المعرفة، ويتم تناول هذه التحديات في الجوانب التالية:
أصبحت المعرفة عاملًا حاسمًا في تحديد القدرة التنافسية للقطاع العام؛ حيث يُعد تقديم الخدمات وصنع السياسات من المهام الرئيسة للحكومة في اقتصاد المعرفة، وعليه تواجه الحكومات بشكل متزايد المنافسة في هذه المجالات. فيما تنتنج الشركات الخاصة السلع والخدمات التي تُعد كثيفة رأس المال غير المادي (مثل تطوير العنصر البشري)، وتتنافس بشكل مباشر مع القطاع العام على توصيل السلع والخدمات، مثل التعليم والبحث العلمي والأمن والمعرفة؛ من خلال التعلُّم عن بُعد والتدريب والمعلومات والدورات على الإنترنت، فالشركات الخاصة لها تأثير متزايد على التعليم العام وتدريب المواطنين، والذي يقدمه القطاع العام بطرق تقليدية، ونظرًا لأن العملاء يطلبون ويحصلون على المزيد من التخصيص من الشركات الخاصة الموجهة نحو المعرفة، فإنهم يتوقعون فوائد مماثلة من القطاع العام.
يخلق تقاعد موظفي الحكومة أو الانتقال المتكرر للعاملين عبر الإدارات الحكومية تحديات جديدة؛ وهي البحث عن طرق للاحتفاظ بالمعرفة والحفاظ على الذاكرة المؤسسية ونقل الخبرات المعرفية المتراكمة في المؤسسات إلى الموظفين الجدد.
تستند الإدارة الحديثة إلى فكرة أن المورد الأكثر قيمة للمؤسسة هو معرفة موظفيها، وأن جميع الوظائف تقريبًا تستند إلى «العمل المعرفي»؛ مما يعني أن أعمال الموظفين أصبحت تعتمد على معارفهم أكثر من مهاراتهم اليدوية، ومن ثَمَّ يُعد إنشاء قطاعات لإدارة المعرفة من بين أهم الأنشطة التي يجب القيام بها في كل مؤسسة.
تقوم العولمة والاقتصاد القائم على المعرفة والتطور الجديد لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بدفع القطاعات العامة والمنظمات الحكومية لمواجهة هذه التحديات والاستفادة بشكل جيد من الفرص التي تتيحها، وتتمثل أحد الحلول المناسبة لمواجهة التحديات في اتخاذ موقف استباقي من خلال تبني ممارسات إدارة المعرفة السائدة واعتمادها وتكييفها مع البيئة العامة للعمل، فإدارة المعرفة لديها بعض الإمكانات لتقوية فعَّالية الحكومة وقدرتها التنفيذية لسياساتها.
بالنظر إلى تجارب المنظمات، نجد أن إدارة المعرفة لا تتطلب أدوات أكثر أو أفضل لجمع المزيد من البيانات والمعلومات، ولكنها تتطلب منظورًا جديدًا لربط محاور المعلومات التي تعزز الفهم وتسرع وتيرة العمل - بمعنى آخر، خلق المعرفة- أي لا تهتم فقط بالاستفادة من ذاكرة المنظمة، ولكن أيضًا بمهارات المنظمة ورأس المال الفكري والاتجاه الى الابتكارات في منهجية تنفيذ المهام الوظيفية والابتكار في تقديم الخدمات وقياس معدلات الأداء حتى تصبح «منظمات ذكية».
جدير بالذكر أنه يمكن تعزيز قدرات إدارة المعرفة من خلال تطوير تكنولوجيا المعلومات (Information Technology, IT) داخل المنظمة، فمن خلالها يمكن للمنظمات نقل المعرفة وخلقها والاستفادة منها في اتخاذ القرارات وعمليات التطوير المستمرة التي أصبحت متطلبًا رئيسًا بسبب تحديات ومتغيرات العصر الحالي، فدمج استراتيجية إدارة المعرفة وقدرتها على نقل المعرفة المستدامة لن يتحقق إلا بدراسة قدرات تكنولوجيا المعلومات داخل المنظمة، بما في ذلك البنية التحتية، والمعرفة الفنية والإدارية لتكنولوجيا المعلومات.
وهذا التوجه سوف يؤثر -بلا شك- على سلوك الموظفين ومواقفهم وأدائهم، كما أنه سوف يؤدي إلى تحسين الأداء ودعم تحقيق النجاح التنظيمي. لذلك، يتطلب تطبيق إدارة المعرفة من جانب المديرين داخل المنظمات تحفيز الموظفين بشكلٍ فعال لتحديث وتعميق معلوماتهم لدعم اتخاذ قرارات أفضل؛ وذلك باستخدام الوسائل التكنولوجية التي ستوفر لهم المعرفة الكاملة عن الموضوعات قيد الدراسة، ومن ثَمَّ اتخاذ قرارات تؤثر بدورها على أداء المنظمة في الحاضر والمستقبل.
ومن خلال تعزيز المهارات التي يتمتع بها الموظفون والتدريب الذي يتلقونه، سوف يتمكَّن الموظفون من مشاركة المعرفة مع الآخرين، مع الأخذ في الاعتبار أن الكفاءة الذاتية مطلب مهم للتغيير السلوكي، ويمكن تعريفها على أنها اعتقاد الفرد بأنه يمتلك المهارات والقدرات المطلوبة لتحقيق نتيجة معينة، ولذا، هناك دور رئيس يجب أن تقوم به الإدارات العليا للمنظمات، وهو تطبيق برامج لرفع الكفاءات الذاتية للموظفين حتى يكونوا عناصر دعم لا مقاومة لتطبيق أنظمة وفكر إدارة المعرفة في أعمالهم اليومية.
وختامًا، من خلال تناول التعريف بأساسيات إدارة المعرفة ودور الموارد المعرفية في تحقيق الميزة التنافسية للمنظمة بما فيها المنظمات الحكومية، بالإضافة إلى استعراض أهم نماذج إدارة المعرفة وأدوات تحويل البيانات إلى معرفة، يوفر المقال نظرة عامة لقادة الحكومات، وصانعي السياسات لتوضيح أهمية وأثر تطبيق إدارة المعرفة التي بدورها ستدعم السياسات والإجراءات المهمة لرفع معدلات الإنجاز في جميع المجالات، بل وربط كل الجهود التي تعزف منفردة لتصبح منظومة شبكية جماعية تمتاز بالكفاءة والفعَّالية والتطوير المستدام، الأمر الذي بدوره سيدعم تحقيق رؤية «مصر 2030» لبناء اقتصاد قائم على المعرفة، بالإضافة إلى تعزيز قدرة أجهزة الدولة على الرقابة والمتابعة، ودعم الاستراتيجيات المعنية بمكافحة الفساد.