مقدمة
أسهمت التطورات التكنولوجية والتقنيات الذكية وانتشار الإنترنت بين سكان العالم في ظهور أنماط سلوكية وتفاعلية جديدة، دفعت في اتجاه مراجعة حقل العلاقات الدولية، والربط بينه وبين منظورات بينية أخرى للوصول إلى فهم أدق للظواهر السياسية؛ مما دفع الباحثين والمتخصصين في دراسات الأمن الدولي باعتبارها تابعة لحقل العلاقات الدولية لإعادة النظر في تعريفات مفهوم الأمن وتهديداته، وعدم قصرها على التهديدات العسكرية والبُعد العسكري للمفهوم، وإيلاء أهمية لأبعاد أمنية غير عسكرية كالأمن الإنساني، وأمن الطاقة، والأمن الغذائي والأمن السيبراني... إلخ، والتي بدأت تتصدَّر المشهد السياسي والأجندة البحثية الغربية، متخطية ما عداها من مفاهيم أمنية تقليدية ركَّزت عليها المدارس التقليدية في العلاقات الدولية بتنوُّعاتها.
وتسعى هذه الورقة إلى تقييم قدرة نظريات العلاقات الدولية على تفسير الظواهر السيبرانية التي باتت جزءًا أصيلًا من العلاقات الدولية، والتي بدأت مفاهيمها في الترسخ سواء في التفاعلات بين الدول أو بين المنظمات الدولية، وبات لها تأثير كبير على الأمن القومي بمفهومه التقليدي، مثل مفاهيم الحرب السيبرانية والصراع السيبراني والهجمات السيبرانية، فضلًا عن تزايد دور التقنيات التي تعتمد على نظم الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قرارات لها تأثيرات عابرة للدول، بما ينذر في النهاية بظهور أنماط جديدة من التفاعلات الدولية لفواعل غير تقليدية قد تكون نظريات العلاقات الدولية غير قادرة على تفسيرها.
وفي ضوء ذلك تتناول الورقة بالتحليل الحالة السيبرانية في النظريات العلاقات الدولية، عبر تحليل تلك الحالة في كلٍّ من النظرية الواقعية والليبرالية والنقدية، والوقوف على أوجه القصور التي تعتري هذه النظريات في تفسير الحالة السيبرانية، مع طرح منهج يحقق التكامل بين النظريات لدعم قدرتها على تفسير الظواهر المستجدة.
أولًا: الـحـاجـــة إلى مـراجـعـــة جـديــــدة لنظريـات العلاقـات الدوليـة:
عادة ما تحتاج النظريات في العلوم الاجتماعية بصورة عامة إلى مراجعات مستمرة، وتكون هذه المراجعة أكثر إلحاحًا إذا ناقشت قضية ديناميكية تتغير باستمرار، مثل قضايا الصراع؛ لأن مثل هذا النوع من القضايا يكون محكومًا بمجموعة من القوى المحركة التي تختلف من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر، تلك القوى المتغيرة تؤثر في مجريات الصراع مثلما تؤثر أيضًا في القيم والثقافة والمفاهيم السائدة في هذا الزمان.
وقد شهدت فرضيات علم العلاقات الدولية مراجعة كبرى عقب انتهاء الحرب الباردة؛ بسبب القصور الذي شاب المنظورات التقليدية للعلاقات الدولية وعجزها عن التنبُّؤ بتفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، فضلًا عن قصورها عن تفسير كثير من الظواهر السياسية التي شهدتها الساحة الدولية عقب سقوط الاتحاد السوفيتي.
ومع المراجعات التي مرت بها نظريات العلاقات الدولية عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، بدأت تظهر النظريات الإبستمولوجيا الحديثـة كالنظريـة النقديـة والنظرية البنائية ونظرية ما بعد الحداثة، وغيرها، والتي اعتـبرت في مُجملـها أن الواقـع الاجتماعي ليس شيئًا مُعطًى، بل يُبنى بالإرادة الإنسانية، وبدأت تأخذ في الاعتبار أهمية الأبعاد القيمية المعيارية في تفسير العلاقات الدولية، واتِّساع نطاق العلم ليشمل القضايا البينية المتداخلة مع العلوم الأخرى، مثل العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل والعلوم الطبيعية أيضًا.
والآن أصبحت المجتمعات البشرية على وشك الانتقال إلى مرحلة جديدة من التطور، وهي مرحلة مجتمع ما بعد المعلومات، أو مجتمع الذكاء الفائق، ذلك المجتمع الذي يأتي بعد مجتمع الصيد الذي عاصره الإنسان الأول، ثم مجتمع الزراعة، ثم مجتمع الصناعة، ثم مجتمع المعلومات، ثم يأتي مجتمع ما بعد المعلومات، لكي تُلقي القوى المحركة في هذه المجتمع - من نظم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والعملات المشفرة وغيرها من التقنيات الذكية – بظلالها على أنماط التفاعل الإنساني والدولي؛ لتعيد تشكيله من جديد وتصيغه وفقًا لمعطياتها وقوانينها الجديدة، وهو ما يتطلب إعادة النظر من جديد في نظريات العلاقات الدولية.
ومع ملاحظة متغير "السرعة" في إعادة تشكيل المجتمعات، كان من الضروري أيضًا أن تساير الأطر النظرية والتفسيرية السرعة نفسها في شرح هذا التطور وتفسيره، فمثلًا استغرق مجتمع الصيد حوالي مليون عام، في حين بدأ المجتمع الزراعي فقط منذ عشرة آلاف عام، وبدأ المجتمع الصناعي منذ مائتي عام، وظهر مجتمع المعلومات منذ ما يقرب من الخمسين عامًا فقط، وحاليًّا مجتمع ما بعد المعلومات.
وعادة ما تفرض مجموعة من القوى المحركة على المجتمع ثقافته وقوانينه ونظمه الملائمة له؛ لذلك تسعى الدول عبر التاريخ إلى امتلاك عناصر القوة اللازمة للحفاظ على بقائها ولتحقيق أهدافها وبسط نفوذها وردع أعدائها، ومع تطور المجتمعات البشرية كان من الضروري أن تتغير أدوات الحرب والصراعات عبر التاريخ، وكان من الضروري أيضًا مراجعة القدرات التفسيرية لنظريات العلاقات الدولية؛ لمعرفة قدرتها على تفسير حالة الصراع، أو التعاون القائمة بين الدول والتنبؤ بما ستؤول إليه في المستقبل.
وقد أظهرت النظريات التقليدية في العلاقات الدولية (الواقعية والليبرالية) قدرات تفسيرية كبيرة في وصف حالة الصراع بين الشرق والغرب أثناء الحرب الباردة، وفي ضوء التطورات التي صاحبت نهاية الحرب الباردة؛ بدأت مرحلة جديدة من مراجعة نظريات العلاقات الدولية، تراجعت فيها القضايا التقليدية للأمن التي كانت تشمل القضايا العسكرية، وسباق التسلح، ونظريات الردع وتوازن القوى، لصالح قضايا أخرى ترتبط بمفهوم الأمن غير التقليدي مثل الفقر والمجاعات والأوبئة وقضايا حقوق الإنسان والتدخل الدولي لأغراض إنسانية، كما تصاعد الاهتمام بقضايا التغيرات المناخية وظاهرة الاحتباس الحراري وما لها من تأثير على تغير حدود الدول، واختفاء المدن الساحلية، وتزايد المشكلات الناجمة عن الهجرة وزيادة عدد اللاجئين، فضلًا عن ظهور أبعاد تكنولوجية وإلكترونية جديدة مثل الجرائم والهجمات السيبرانية.
لكن يبدو أن العالم على أعتاب نقلة نوعية جديدة من شأنها أن تغير، ليس فقط شكل الصناعات وطرق الإنتاج، ولكن أيضًا المنظور المعرفي للبشر تجاه الأشياء بصورة عامة، وهذا هو ما يشير إليه البروفيسور كلاوس شواب Klaus Schwab في كتابه The Forth Industrial Revolution.(1)
فبعد الثورة الزراعية التي حدثت منذ ما يقرب من عشرة آلاف عام، والثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، والتي قامت على الفحم وقوى البخار، والثانية في القرن التاسع عشر، والتي قامت على الكهرباء، والثالثة التي بدأت في ستينيات القرن العشرين، والتي قادها الكمبيوتر والتي عرفت بالثورة الرقمية، أصبح العالم على أعتاب ثورة صناعية رابعة، ثورة لم يشهد التاريخ البشري مثلها على الإطلاق، سواء من حيث سرعتها أو نطاقها أو حتى تعقيداتها، يقود هذه الثورة عدد من المحركات الرئيسة تتمثل في الذكاء الصناعي، والروبوتات، والسيارات ذاتية القيادة، والطابعات ثلاثية الأبعاد، والبيانات العملاقة، والعملات الافتراضية، وإنترنت الأشياء، والنانوتكنولوجي، والبيوتكنولوجي، وتخزين الطاقة، والحوسبة الكمومية Quantum Computer.
هذه المرحلة الجديدة من تطور المجتمعات البشرية تفرض، وبقوة، ضرورة مراجعة نظريات العلاقات الدولية من جديد؛ وذلك بسبب نوعية التحديات والتهديدات المختلفة التي تواجهها المجتمعات البشرية، والتي قد لا تستوعبها النظريات التقليدية أو حتى النقدية للعلاقات الدولية؛ وذلك بسبب تزايد قدرات وأدوار الذكاء الاصطناعي والآلات الذكية في اتخاذ قرارات لها تأثير على الدول والأفراد، بصورة تجعل نظم الذكاء الاصطناعي من الروبوتات والطائرات بدون طيار والسيارات ذاتية القيادة فاعلًا غير تقليدي من غير الدول في العلاقات الدولية، وبعد أن كانت الدولة صاحبة الحق الأصيل في السيادة على مواطنيها، شاركتها في ذلك شركات التكنولوجيا العملاقة وشبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تمتلك معلومات عن الأفراد أكثر من تلك التي تمتلكها الدولة، كما أصبح بإمكان أي مجموعة من الأفراد تدشين عملتهم المشفرة الخاصة بهم عبر الإنترنت بعيدًا عن العملات الوطنية التقليدية.
وبعد أن كان الاستخدام المادي للقوة المفرطة في العلاقات الدولية مقصورًا على الدول، شاركها في ذلك الأفراد العاديون عبر استخدام أسلحة سيبرانية عبارة عن فيروسات وبرمجيات بسيطة ورخيصة التكلفة ولها تداعيات تقارب تأثير الأسلحة التقليدية إذا استهدفت البنية التحتية للدول من محطات الطاقة، والسدود، ونظم المواصلات، والطيران، والمستشفيات وغيرها من النظم الذكية.
وبعد أن كانت المعارك العسكرية بين جيوش نظاميه يمكن تحديد مَن المنتصر فيها ومَن المهزوم بناء على الأراضي التي تم اكتسابها أو الخسائر التي تحققت، أصبحت الحروب سيبرانية عبر بيئة مصنوعة من كابلات وخوادم Servers وليست بيئة طبيعية تحكمها قوانين الطبيعية كالأرض أو البحر أو الجو، ولا يستطيع القانون الدولي أن يحكم التفاعلات التي تجري فيها؛ لصعوبة معرفة الفاعل الحقيقي الذي قام بشنِّ هذه الحرب أو الهجمات السيبرانية على الطرف الآخر أيضًا، والخسائر فيها قد تكون مباشرة تتمثل في تدمير البيانات والبنى التحتية والمعدات العسكرية، وقد تكون غير مباشرة تتمثل في تراجع التنافسية الاقتصادية للدولة وفقدان الثقة في الاقتصاد القومي؛ بسبب الهجمات السيبرانية التي تستهدف المؤسسات المالية والتجارية والصناعية.
كل هذه التطورات التكنولوجية لها عديد من التداعيات على حقل العلاقات الدولية بصورة عامة، وعلى مفهوم الأمن القومي بصورة خاصة، فأصبح الأمن السيبراني أحد عناصر تحقيق الأمن القومي، واستحوذ على مكانة مهمة في العديد من الاستراتيجيات العسكرية للدول، وهنا يثار التساؤل بشأن تأثير التطورات التكنولوجية على مفهوم الأمن القومي من عدة جوانب، أولها موضوع التهديد، هل هو الدولة، أم المجتمع، أم المنظمات والشركات، أم الأفراد؟، وثانيها مصادر التهديد التي تؤثر على الأمن القومي، سواء أكانت تقليدية، مثل الصراعات الدولية، أو غير تقليدية، مثل الهجمات السيبرانية، والحروب السيبرانية، والإرهاب السيبراني، أو حتى الكوارث الطبيعية، وثالثها من حيث الفواعل فيها، سواء من دول، أو قراصنة معلومات، أو حركات إرهابية، أو منظمات إجرامية، أو حتى روبوتات ونُظُم ذاتية القيادة.
لقد أدَّت التطورات التكنولوجية التي شهدها القرن الحادي والعشرون إلى تغيرت أدوات الصراع وعناصر القوة ومعايير المكسب والخسارة، ودخلت فواعل جديدة غير مسبوقة في معادلة الصراع الدولي أصبح بإمكانها التأثير على العلاقات الدولية، لذلك بات من الضروري مراجعة نظريات العلاقات الدولية؛ لمعرفة مدى قدرتها على تفسير حالة الصراع الدولي في ظلّ هذه المعطيات الجديدة.
ثانيًا: الحالة السيبرانية في النظريات الواقعية:
تأسَّس فكر المدرسة الواقعية على عدة افتراضات؛ من أهمها: أن الدولة هي الفاعل الرئيس المسيطر على العلاقات الدولية، وأنها تتسم بالعقلانية التي تجعلها تحدد مصالحها استجابة لهيكل القوة في النظام الدولي الذي يتسم بدوره بالفوضى؛ مما يفرض على الدول ضرورة الاعتماد على الذات لتحقيق أمنها القومي من خلال تسخير كل المصادر المادية لقوتها الفعلية والكامنة، خاصة القوة العسكرية التي تعد من وجهة نظر الواقعية البعد الأهم في قوة الدولة، حيث تتحدد أهمية العناصر المادية الأخرى بالقدر الذي تقوِّي به البعد العسكري.
ويعدُّ مبدأ بقاء الدولة واستمراريتها هو أهم مبدأ من مبادئ الواقعية؛ مع التركيز على بعد الأمن، باعتباره شرطًا مسبقًا لتحقيق باقي الأهداف سواء كان بالغزو أو لمجرد نيل الاستقلال، وكما ذكر "كينث والتز" فإن "دافع البقاء هو أبرز أهداف الدول(2)". وفي هذا الإطار سعى "نيكولو ميكافيللي" إلى أن يجعل من فن البقاء علمًا قائمًا بذاته(3).
وبتطبيق مقولات النظريات الواقعية على الظواهر السيبرانية نجد أنها تصلح في تفسير عدد من الأمور المتعلقة بالتهديدات السيبرانية والصراع السيبراني، والتي منها على سبيل المثال الطبيعة الفوضوية للفضاء الإلكتروني، فهو نظام لا مركزي ولا توجد سلطة عليه تدير التفاعلات التي تحدث به(4)؛ لذا يرى "جيمس آدم" – أحد منظِّري الواقعية الجديدة- أن الفضاء الإلكتروني أصبح ساحة القتال الجديدة للدول، وأنه كلما زاد اعتماد الدولة على التطورات التكنولوجية زادت قابليتها للاختراق(5)، وهو ما يفرض على الدول الاعتماد على الذات؛ لتطوير قدراتها السيبرانية أو الدخول في تحالفات مع غيرها من الدول - التي لا يمكن الوثوق بها تمامًا – لتدعيم أمنها القومي(6)، فضلًا عن ضرورة اتجاه الدول للاعتماد على نفسها في تطوير تقنياتها الذكية، وهو جوهر فكر المدرسة الواقعية؛ نظرًا لأن التقنيات التي يتم استيرادها من الغير قد يكون بها ثغرات أو برامج تجسس وأبواب خلفية تسمح بالاختراق وتهديد الأمن(7).
وقد تجلَّى ذلك بصورة واضحة في موقف الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة "دونالد ترامب" ضد شركة "هواوي" الصينية، لحظر استخدام التقنيات الخاصة بشبكات الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية التي تنتجها هذه الشركة، سواء من قِبل شركات أمريكية أو من قِبل دول تعد حليفة للولايات المتحدة الأمريكية؛ تخوفًا من وجود أبواب خلفية لشن هجمات سيبرانية على أهداف أمريكية، أو جعل الولايات المتحدة منكشفة سيبرانيًّا بما يسهم في تعريض الأمن القومي الأمريكي للخطر. وفي المقابل، دعمت الحكومة الأمريكية الاعتماد على شركات داخل أمريكا مثل "كوالكم" وشركات داخل أوروبا مثل "نوكيا" و"أريكسون" لنشر شبكات الجيل الخامس من الاتصالات اللاسلكية في أوروبا وأمريكا.
كما تستطيع النظريات الواقعية أيضًا أن تفسر حالة سباق التسلح السيبراني في الفضاء الإلكتروني. فعلى الرغم من سرية النشاط المتعلق بالقدرات الإلكترونية، فإن التوقعات تشير إلى أن هناك ما لا يقل عن 120 دولة تقوم بتطوير طرق للتجسس واستخدام الإنترنت كسلاح لاستهداف أسواق المال ونظم الكمبيوتر الخاصة بالخدمات الحكومية، ومن أهم هذا الدول التي تمتلك قدرات هجوم إلكترونية الولايات المتحدة والصين وروسيا وإسرائيل وفرنسا وبريطانيا والهند وألمانيا(8)، وبالرغم من ذلك يبقى التساؤل: هل من الضروري أن يؤدي سباق التسلح السيبراني إلى حالة الحرب التي تفترضها الواقعية التقليدية للحفاظ على المصلحة القومية؟ أم أنها مجرد حالة "صراع وتنافس" كما في الواقعية الجديدة وليست حالة حرب؟
ومن هنا تظهر عدة إشكاليات تحليلية في الظواهر السيبرانية تقف أمامها النظريات الواقعية عاجزة عن التفسير، ولا تقتصر هذه الإشكاليات على حالة الحرب فقط، بل تشمل أيضًا الفواعل في هذه الحرب والقضايا التي تدور حولها، ويمكن توضيح ذلك في التالي:
1. عدم قدرة النظريات الواقعية على تفسير مراحل أقل حدَّة من الصراع الدولي:
النظريات الواقعية بمختلف فروعها معنيَّة بحالة الحرب وحالة البقاء، وتعتمد على مصطلحات رئيسة مثل القوة والصراع والحرب والردع، وهي حالات تمثل قمة منحنى الصراع الدولي، وقد تصلح النظريات الواقعية في تفسير الحالات التي تسعى فيها الدولة نحو تدمير خصمها نهائيًّا للتخلص من "المعضلة الأمنية"، لكن يبقى التساؤل عن قدرة النظريات الواقعية على تفسير حالات أقل حدَّة من الصراع غير حالة الحرب والتي تنطبق على حالات الصراع السيبراني، الذي لا يمكن فيه سحق الخصم أو تدميره نهائيًّا، ويبقى جليًّا أنه حتى الآن لم يشهد العالم حالة حرب سيبرانية كاملة أو واضحة يمكن قياسها(9)، بل مستويات أقل من الصراع السيبراني مثل شنّ هجمات سيبرانية على الأفراد و البنوك والشركات؛ بهدف الابتزاز أو الحصول على الأموال، وهو ما يضر الاقتصاد القومي للدول في النهاية، لكن لا يمكن اعتباره حالة تصعيد عسكري، ولا يمكن اتخاذ إجراءات تصعيدية لوقفه، بخلاف الهجمات السيبرانية ذات الطابع العسكري التي لها تأثير مباشر على الأمن القومي للدول.
ومن تلك الأمثلة التي تدل على عدم قدرة النظريات الواقعية على تفسير مستويات أقل من الصراع، مطالبة الرئيس الأمريكي الأسبق "باراك أوباما" الرئيسَ الصينيَّ بعدم شنِّ هجمات سيبرانية على المؤسسات الأمريكية إلا في حالة وجود خلاف كبير بين الدولتين؛ حتى لا يتم استنزاف الموارد الأمريكية، ثم كرَّر المطلبَ نفسه الرئيسُ الحاليُّ "جو بايدن"، حينما سلَّم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائمة تحتوي على 16 كيانًا أمريكيًّا، تم اعتبارها كيانات غير مسموح للقراصنة الروس بشنِّ هجمات سيبرانية عليها، إلا أن الأمر يبدو أنه لم ينجح، فلم تمر إلا أيام قليلة حتى وقع هجوم على شركة "كاسيا"، ولم تنجح الولايات المتحدة في الحفاظ على أمنها أو ردع أعدائها من شنّ هجمات سيبرانية عليها، وفي الوقت نفسه لم يتصاعد الموقف بين الطرفين للوصول إلى حالة حرب، بما يعكس عدم قدرة النظريات الواقعية على تفسير مراحل أقل من حالة الحرب في الصراع الدولي السيبراني.
2. صعوبة تقدير قوة الدولة السيبرانية في مواجهة غيرها من الدول وإشكالية امتلاك القوة:
تركزت القوة في المدارس الواقعية على المفهوم المادي الصلب لها، متمثلًا في القوة العسكرية، والتي يمكن قياسها وتقديرها بناء على عدد الجنود والأسلحة وغيرها من العناصر المادية، في حين أن القوة السيبرانية هي قوة هجينة، تتكون من عناصر مادية وعناصر أخرى ناعمة، ولكلٍّ منها تأثيره في العلاقات الدولية.
من ناحية أخرى، ترى الواقعية أنه من الضروري قياس قوة الدولة لمعرفة موقف الدول الأخرى منها، بما يحقق في النهاية توازن القوى، لكن يعتبر تقدير قوة الدولة السيبرانية أمرًا صعب القياس؛ لأنها غير ملموسة أو مرصودة، ولا تعلن الدول عن قدراتها السيبرانية الهجومية، فمثلاً لم يتم الإعلان رسميًّا حتى الآن عن المسؤول عن بناء برمجية "ستاكس نت" التي ضربت البرنامج النووي الإيراني بين عامي 2009 - 2010.
كما أن تقدير قوة الدولة السيبرانية لا يتوقف فقط على حجم القدرات الهجومية أو الدفاعية التي تمتلكها الدولة، ولكن يتوقف أيضًا عن الأهداف الحيوية والاستراتيجية المرتبطة بالفضاء السيبراني فيها، فمثلًا دولة مثل كوريا الشمالية، لديها قدرات متقدمة هجوميًّا في مجال الحرب السيبرانية، لكن لا توجد بداخلها بنية تحتية تعتمد على الفضاء السيبراني يمكن إصابتها في حالة الحرب، وهو ما يعطيها ميزة كبيرة في حربها مع دولة متقدمة سيبرانيًّا مثل الولايات المتحدة الأمريكية؛ وذلك نظرًا لتنوع الأهداف السيبرانية التي يمكن إصابتها في الولايات المتحدة على عكس كوريا الشمالية.
3. رغم محورية مفهوم الردع عند الواقعيين فإن تحققه أمر صعب في ظل الصراع السيبراني:
"الردع" عند الواقعيين هو تعظيم قوة الدولة لمنع الدول الأخرى من الاعتداء عليها بما يحافظ على أمنها القومي(10)، وهو ما يصعب تحققه بصورة كبيرة في الفضاء الإلكتروني؛ نظرًا لعدة إشكاليات؛ منها: القدرة على تقدير القوة السيبرانية للخصم كما تم توضيحه في النقطة السابقة، ومن ناحية أخرى قد تتعرض إحدى الدول إلى هجمات سيبرانية من قِبل عدو لها، ومن ثمَّ فقد تقوم بشنِّ هجوم سيبراني انتقامي عليه بهدف تحقيق الردع، لكن هذا الهجوم يكون غير مؤثر، وفي هذه الحالة يفشل تحقيق الردع. بالإضافة إلى النقطة الأهم، ألا وهي القدرة على التتبع ومعرفة مصدر الهجمات الحقيقي، وهذه إحدى إشكاليات الهجمات السيبرانية، والتي تتمثل في صعوبة معرفة الطرف المُعتدي حتى يمكن الانتقام منه أو ردعه. وبالتالي لا تستطيع النظرية الواقعية تفسير حالة "الردع" في الصراعات السيبرانية.
4. زيادة القدرات الدفاعية للدولة لا يقل أهمية عن زيادة القدرات الهجومية:
يُضاف إلى ذلك أن الواقعية تُعلي من الأساليب الهجومية على الأساليب الدفاعية(11)، وهو ما لا يتلاءم مع طبيعة الفضاء الإلكتروني الحالية والتقنيات الذكية التي تعتمد عليه، والتي لا تقل فيها الأساليب الدفاعية أهمية عن الهجومية، بل قد يكون من الضروري أن تمتلك الدولة قدرات دفاعية أكبر من امتلاكها قدرات هجومية في الفضاء السيبراني؛ وذلك لضمان أمن واستقرار الخدمات والبنى التحتية التي تعتمد على الإنترنت.
5. دخول فواعل من غير الدول في الصراع السيبراني:
إذا كانت النظريات الواقعية تُعلي من دور الدولة في الصراع الدولي، وينظر إليها التقليديون على أنها الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية، فإن الأمر ليس كذلك في الصراع السيبراني؛ فعلى الرغم من محورية دور الدولة فيه، فإن هناك فواعل غير الدول لهم دور كبير في الصراع السيبراني، مثل الحركات الإرهابية التي تستخدم الإرهاب السيبراني لتحقيق أهدافها(12)، ومجموعة القرصنة الإجرامية المنظَّمة، فضلًا عن دور شركات التكنولوجيا العملاقة التي تقوم بتصنيع هذه التقنيات وإدارتها، وكذلك بعض المنظمات الدولية المعنية بإدارة الإنترنت مثل الاتحاد الدولي للاتصالات.
ثالثًا: الحالة السيبرانية في النظرية الليبرالية
ترى النظرية الليبرالية أن الدولة ليست هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية، بل إن هناك فواعل أخرى غير الدول تلعب دورًا مهمًّا في العلاقات الدولية، مثل الجماعات الإرهابية والشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية، مع الاعتراف بأن الدولة هي الأكثر تأثيرًا في مجمل العلاقات. كما ترى أن الدولة لا تنتمي فقط إلى الشعب، بل هي من صنع الشعب أصلًا. وتؤكد الليبرالية أهمية الأمن الجماعي، باعتباره وسيلة لتعزيز الأمن الدولي، من خلال إقامة مؤسسات للأمن الجماعي توفر آلية أكثر فاعلية لعملية التوازن إزاء طرف معتدٍ، وذلك من خلال إيجاد قوة ضاربة توفر الردع، أو اتخاذ إجراءات أكثر صرامة في حال فشل الردع.
ويمكن الاستفادة من النظريات الليبرالية في تحليل بعض المتغيرات الخاصة بطبيعة الفضاء الإلكتروني وطبيعة الصراع السيبراني في الاهتمام مثلًا بالأبعاد غير العسكرية للقوة، وإدخال دور الفواعل من غير الدول في تحليل العلاقات الدولية، والتأكيد على فكرة الأمن الجماعي الضرورية؛ لمواجهة التهديدات السيبرانية العابرة بطبيعتها للدول، والتي تحتاج إلى تعاون دولي مؤسسي للتغلب عليها من خلال مشاركة البيانات والمعلومات(13)، وتمثيل مفهوم "الاعتماد المتبادل" بين الدول والجماعات الإنسانية، والذي هو مفهوم أساسي في الليبرالية وأحد مظاهر الحالة السيبرانية، فضلًا عن فتح الفضاء السيبراني لمساحات تفاعل غير تقليدية تحدُّ من سيادة الدول وهو ما تتفق معه الليبرالية، وبالرغم من ذلك فإن هناك بعض الإشكاليات التي ما زالت تحتاج إلى مزيد من التفسير، والتي منها:
1. إشكالية العلاقة بين الدولة وغيرها من الفاعلين من غير الدول:
لا تقدم النظريات الليبرالية فهمًا واضحًا للعلاقة بين الدولة وغيرها من الفاعلين من غير الدول التي أعطت لها هذه النظريات اهتمامًا كبيرًا. لقد أصبحت الشركات التكنولوجية العملاقة أحد عناصر إدارة الصراع الدولي بما تمتلكه من تقنيات وتكنولوجيا وخدمات، وبما تمتلكه أيضًا من معلومات؛ حيث تمتلك شركات مثل ميكروسوفت وفيس بوك وجوجل وأبل وغيرها العديدَ من المعلومات الاستراتيجية التي يوجد حولها العديد من التساؤلات عما إذا كانت هذه الشركات تشارك هذه المعلومات مع بعض الدول أم لا. فإذا قامت مثلا بإعطاء هذه المعلومات إلى حكومة ما، فإن ذلك سيعطي تلك الدول هامش مناورة أكبر ومركز قوة أفضل في علاقاتها الدولية على حساب الدول الأخرى التي لم تشارك هذه الشركات المعلومات معها، وهو ما لم تفسره النظريات الليبرالية(14).
ومن الأمثلة على ذلك ما كشفته تسريبات "إدوارد سنودن" عام 2013 عن تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية عبر الإنترنت على زعماء وسياسيين أوروبيين بارزين في ألمانيا والسويد والنرويج وفرنسا وذلك بين 2012 و2014، واستطاعت الوكالة الأمريكية الاطلاع على رسائل نصية ومكالمات هاتفية وسجل الإنترنت لعدد من الشخصيات السياسية الأوروبية من بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ووزير الخارجية الألماني السابق "فرانك فالتر شتاينماير"(15).
2. عدم قدرة المنظمات الدولية على التخلص من حالة الفوضى في الفضاء السيبراني:
تُعوِّل النظريات الليبرالية على دور المؤسسات الدولية في التخلص من حالة الفوضى في العلاقات الدولية، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، وبصورة خاصة حالة الفوضى في الفضاء السيبراني؛ فالمنظمات الدولية المعنية بإدارة الإنترنت مثل منظمة الأيكان ICANN الخاصة بإدارة عناوين ونطاقات الإنترنت وكذلك الاتحاد الدولي للاتصالات،
لا تستطيع التغلب على حالة الفوضى في الفضاء السيبراني؛ فالهجمات السيبرانية غير معروف مصدرها أو من يقف خلفها، ويصعب حتى إثبات ذلك، والأسلحة السيبرانية يتم تطويرها واستخدامها حتى دون أن يعلم الخصم أنه تم اختراقه من الأساس، ويصعب معرفة مَن يقوم بشن هذه الهجمات أهم دولٌ؟ أم فواعل من غير الدول؟ فضلًا عن صعوبة تطبيق القانون الدولي على الفضاء الإلكتروني؛ نظرًا لغياب الحدود الجغرافية التي تنطبق على الميادين التقليدية للصراع كالأرض والبحر والجو أو حتى الفضاء الخارجي.
3. صعوبة تفسير حالة الأمن الجماعي في الصراعات السيبرانية:
لم توفر الليبرالية إطارًا يمكن من خلاله فهم الأمن الجماعي السيبراني في ظل الإشكاليات التي يثيرها من صعوبة فنية في معرفة الطرف المعتدي من الأساس وأيضًا صعوبات تعريف نوعه وجنسه، عما إذا كان فاعلًا من الدول أو من غير الدول، ولم توضح أيضًا آلية يمكن من خلالها تحقيق الأمن الجماعي لمواجهة الصراعات السيبرانية(16) في ظل وجود حالة من التكتم على الأسرار التقنية بين الدول؛ للحفاظ على قوتها النسبية في مواجهة غيرها.
ومع وجود صعوبات فنية حقيقية في معرفة الطرف المعتدي، تتراجع الثقة في إجراءات الأمن الجماعي أو المؤسسات الدولية، وفي تطبيق قواعد القانون الدولي، بل إذا استطاعت إحدى الدول أن تكتشف مصدر الهجمات السيبرانية فإن ذلك لا يعني بالضرورة تورُّط الدولة فيها، حتى لو كانت متورطة فإنها قد تنفي ذلك. والأسلحة السيبرانية يمكن تطويرها واستخدامها من قِبل فاعلين من غير الدول، ويعتبر النموذج الأبرز على ذلك دودة "ستاكس نت" التي اعتبرها البعض نموذجًا حقيقيًّا للحرب السيبرانية؛ حيث استطاعت تدمير آلاف من أجهزة الطرد المركزية الإيرانية، مع ذلك لم يتم اكتشاف مصدره، أو تصريح دولة ما رسميًّا بأنها خلف هذا الهجوم(17).
4. العلاقة الجدلية بين الأمن والخصوصية الفردية:
يُضاف إلى ذلك أن الليبرالية لم تحسم العلاقة الجدلية بين الأمن والخصوصية، فهل يحق للدولة التجسس على الأفراد بداخلها وتسجيل مكالماتهم واتصالاتهم عبر الإنترنت لدواعي الحفاظ على الأمن؟ وهل يحق للشركات التكنولوجية الكبرى العابرة للحدود أن تجمع المعلومات الشخصية عن الأفراد من مختلف دول العالم، متخطية في ذلك جميع الحدود الوطنية والإقليمية بداعي أنها تسعى نحو تحسين الخدمة التي تقدمها، أو تحسين جودة الإعلانات التي تظهر لعملائها؟ أسئلة عديدة تفرض البحث عن أطر جديدة تفسر هذه الإشكاليات.
رابعًا: الحالة السيبرانية في النظرية النقدية
إذا كانت المنظورات التقليدية للعلاقات الدولية قد تعاني قصورًا في الإلمام بجميع أبعاد الأمن السيبراني؛ وذلك لأنها تغفل البعد القيمي المعياري، فإن النظريات النقدية التي تأخذ الأبعاد المعيارية في الاعتبار تظهر أهميتها في ضوء تزايد ارتباط العالم بثورة المعلومات، وتغيُّر منظومة القيم في المجتمعات، كما حذرت النظرية النقدية من مخاطر الخصوصية غير المقيدة والروابط الحصرية التي تقود إلى غربة بين المجتمعات وإلى احتمال نشوب حرب أو إقصاء اجتماعي(18).
وقد أولت النظرية النقدية اهتمامًا كبيرًا للأبعاد المعيارية والقيمية، حيث ترى أن سلوك الدول وتفاعلاتها في العلاقات الدولية تتبع الطريقة التي تفكر بها، وأن بنية النظام الدولي ليست بنية تراتبية مادية لوحدات هذا النظام، وإنما هي نتاج للتفاعلات الاجتماعية بين وحداته (19). وضمن هذا البناء الاجتماعي للنظرية النقدية، تكون التوزيعات المادية محددة بشكل كبير لسلوكيات الدول، لكنها ليست وحدها فهناك عنصر المعرفة بين الدول وخبرة التعاطي مع حالات التفاعل وعمليـة الإدراك المشترك، وهي كلها عوامل تفيد في تشكيل بنية النظام الدولي ومساراته التفاعلية. فالتهديدات السيبرانية بصورتها العسكرية لا تكون إلا بين أعداء تقليديين بينهم معارك قائمة، سواء سياسية أو عسكرية، مثل الصراع الصيني الأمريكي أو الروسي الأمريكي، لكن تقل حدتها بين غيرهم من الدول، فمثلًا نادرًا جدًّا ما يتم الحديث عن هجمات سيبرانية متبادلة بين الصين وكندا على سبيل المثال(20).
وبالتالي فإن فهم طبيعة التهديدات السيبرانية لا يمكن أن يحدث بمعزل عن المتغيرات الأخرى، مثل مجال التنافس الدولي، وتاريخ العلاقات بين الدولتين محل الصراع والعوامل الثقافية والاجتماعية التي يدور في إطارها الصراع أيضًا. على سبيل المثال، لا يمكن تفسير الهجمات السيبرانية التي قامت بها إيران على شركة أرامكو السعودية منذ 2012(21)وحتى آخر هجمة تم رصدها عام 2017 دون فهم السياق الجغرافي والتاريخي والاجتماعي بل والديني بين الدولتين، ولذلك كان من الضروري إدخال الأبعاد القيمية عبر النظريات النقدية في دراسة الصراعات السيبرانية.
ومن ثم، فليس المحدد العسكري وحده هو الذي يحدِّد حالة الأمن للدولة عند النقديين؛ حيث تبرز قيمة الأبعاد الأخرى غير القوة والفوضى في فهم الأمن الدولي. ولأن الأفكـار والقـانون والمؤسسات والمعرفة تلعب كلها دورًا مهمًّا في توجيه سلوكيات الدول في النظام الدولي، لذلك فالتوجه الأمني للدول ليس ثابتًا ولا مطلقًا، فهو يتغير بحـسب طبيعة وثقافة وخبرة وإدراك كل دولة(22). وهو ما يجعل بعض الدول تنظر إلى أن تبنِّي نماذج المدن والحكومات الذكية قد يشكل نقطة ضعف لها بسبب تعدُّد الأهداف الداخلية التي يمكن إصابتها بالهجمات السيبرانية داخل الدولة، وقد ينظر إليها البعض على أنها نقطة قوة تدفع الدولة نحو زيادة محصلتها من القوة على مختلف المستويات سواء العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.
وفي الدول التي تعتمد على تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والجيل الخامس للإنترنت بصورة رئيسة، فإن تركز جميع المعلومات والبيانات الضخمة لدى المؤسسات الحكومية، قد يصبح أحد أدوات تهديد حرية الأفراد داخل الدولة، وممارسة نوع من أنواع العنف غير المباشر عليهم، أو حتى تهديد مسار العملية الديمقراطية داخل الدولة من خلال مؤسسات الدولة الداخلية نفسها. فقد تستغل الحكومات البيانات الضخمة الصادرة من الأفراد في تدعيم موقفها الانتخابي، وبالتالي البقاء في السلطة لأعوام عديدة، ومن ثمَّ تأتي هنا أهمية المدارس النقدية التي تُعلي من دور الفرد في مواجهة الدولة، مثل مدرسة أبريستويث، ومدرسة كوبنهاجن، ومدرسة باريس .
كما أن النظريات النقدية سواء الوضعية مثل الليبراليين الجدد والتعددين Pluralists والتضامنيين solidarists، أو ما بعد الوضعية مثل ما بعد الحداثة والمحافظين constructivist ترى أن "الفرد" في حد ذاته قد يصبح هو مستوى التحليل، وليس الدولة كما في حالة الواقعية، أو النظام الدولي كما في حالة الليبرالية. والنماذج التي توضح ذلك عديدة، منها نموذج جوليان أسانج، ونموذج إدوارد سنودن؛ حيث استطاع كلٌّ منهما أن يؤثر ليس فقط في الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية من خلال نشر العديد من الوثائق السرية الحكومية، أو من خلال تسريب برامج التجسس السرية التي تقوم بها أجهزة الأمن القومي الأمريكي، بل استطاع أيضًا أن يؤثر في النظام الدولي كله، وتسبَّب ذلك في توتُّر العلاقات بين الولايات المتحدة وأشد حلفائها مثل ألمانيا وفرنسا.
ومع ذلك لا يمكن القول إن النظريات النقدية هي الأقدر على تفسير حالة التهديدات السيبرانية؛ حيث تواجه قصورًا منهجيًّا على عدة مستويات، وهي:
1. الفاعل قد يكون غير معروف من الأساس:
وذلك بسبب طبيعة التهديدات المعقَّدة الناجمة عن التهديدات السيبرانية، فمثلًا قد يكون التهديد الخارجي للدولة قادمًا من مجموعة من القراصنة الهواة الخارجين عن سيطرة الدولة الأخرى، وقد يكونون مستأجرين من دولة داخل إقليم دولة أخرى، وقد يكونون تابعين لدولة ومجندين في جيوشها النظامية ولكن الدولة لا تعلن ذلك صراحة، وقد يكونون متفرقين بين أكثر من دولة، وهذه هي الحالة الطبيعية في الحروب السيبرانية، حيث يتم شنُّ الهجمات على الدولة المستهدفة من أجهزة كمبيوتر منتشرة حول العالم، بما فيها الدولة محل الهجوم، وليس من إقليم دولة واحدة.
2. غير قادرة على تفسير حالة الفوضى وعدم اليقين التي تسيطر على الفضاء الإلكتروني:
حيث تقوم الدول بالتجسس على بعضها البعض بما فيها الدول الحلفاء، مثل ما كشف عنه إدوارد سنودن من تجسُّس الولايات المتحدة على حلفائها في أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا(23)، فجميع الدول تسعى نحو البقاء على قيد الحياة، وتحقيق مصالحها، والحفاظ على أمنها القومي.
كما أن المبادئ الأخلاقية التي تنادي بها دولة مثل الولايات المتحدة كالحرية الشخصية والحفاظ على خصوصية الأفراد، تلاشت أمام التسريبات التي كشفت عنها وثائق الويكيليكس وتسريبات إدوارد سنودن، والتي أظهرت تجسُّسها على مواطنيها بالداخل بل ومواطني الدول الأجنبية أيضًا، ورصد جميع مراسلاتهم ومحادثاتهم الشخصية؛ مما يؤكد مبادئ التقليديين من أن المصلحة القومية أهم من المبادئ الأخلاقية، في عودة من جديد لفكر المدرسة الواقعية.
3. التحيُّز في التعبير عن مصالح الأقليات والمهمشين والمرأة:
فعادة ما تنادي النظرية النقدية بالأخذ في الاعتبار المنظورات غير السائدة في دراسة العلاقات الدولية مثل أصوات الأقليات والمرأة والمصالح غير الغربية، في الوقت الذي يصعب فيه إعادة هيكلة الفضاء الإلكتروني للتعبير عن هذه الأصوات.
ففي الدول الديمقراطية والتي تكفل فيها القوانين إعطاء مساحات لهذه الفئات لممارسة التأثير، فإن الطبيعة المركبة والمتشابكة للفضاء الإلكتروني قد لا تسمح في بعض الأحيان بالتأثير عبر الفضاء السيبراني، فعلى سبيل المثال شهدت
الانتخابات الأمريكية عام 2016، فضيحة كامبريدج اناليتكا، حيث أسهم موقع الفيس بوك بطريقة غير مباشرة في تغيير توجُّهات الناخبين وطريقة تصويتهم في الانتخابات.
ثم تكرَّر الأمر بصورة مشابهة عام 2021، حينما أعلنت موظفة منشقة عن الفيس بوك أن الخوارزميات التي تستخدمها الشركة تعلي معايير النمو والانتشار والتوسع على معايير الأمان والسلامة، وهي في ذلك تعطي الأولوية للمنشورات التي تحصل على أكبر قدر من الانتشار والمشاركات بغض النظر عما إذا كانت هذه المنشورات تعمِّق الانقسامات وحالات الاستقطاب أم لا، بما يعني في النهاية أن الفكر النقدي ذاته قد لا يصلح للفضاء الإلكتروني الذي هو – على المستوى النظري- جاء ليدعمه ويؤكده.
خامسًا: نحو تكامل النظريات
في الحقيقة، لا توجد نظرية قادرة على تفسير جميع الظواهر السياسية بصورة عامة، فهذه ليست وظيفة النظرية، بل حتى الظواهر الصغيرة والمحدودة، قد تفشل النظرية الواحدة في الإلمام بجميع أبعادها في العلوم الاجتماعية. وطالما نتحدث عن ثورة صناعية رابعة لها تداعيات على المجالات كافة، فنحن في حاجة إلى تكامل النظريات؛ حتى يمكن رؤية تداعياتها على الأمن القومي بصورة أوضح.
قد تفشل المنظورات التقليدية للعلاقات الدولية في الإلمام بجميع أبعاد الأمن في ظل التطورات التكنولوجية؛ وذلك لأنها تغفل البعد القيمي المعياري في العلاقات والذي تؤكده النظريات النقدية، وتجعل –أي النظريات التقليدية- الدولة هي الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية، بل ويُعد الفاعل الوحيد وفقًا للنظرية الواقعية، كما أن حالة الحرب التي يمكن القضاء عليها من وجهة نظر المدرسة الليبرالية من خلال الديمقراطية والتجارة الحرة(24)هي أيضًا محل تهديد في ظل التقنيات الذكية، حيث نظر البعض إلى هذه التقنيات الذكية باعتبارها مصدر تهديد للعملية الديمقراطية من خلال تركُّز السلطات(25)، وهو ما يضعف من قدرة النظريات التقليدية على فهم التهديدات الأمنية غير التقليدية وخاصة التهديدات ذات البعد القيمي.
كما لا تقدم النظريات التقليدية أدوات تحليلية لفهم بعض التهديدات الأمنية غير التقليدية؛ فالأسلحة وبخاصة السيبرانية لم تعد حكرًا على الدولة مثلما تحاجج الواقعية، بل أصبحت متاحة للأفراد ويتم استخدامها في شنِّ الهجمات السيبرانية.
وبالتالي فإن "الفرد" في حد ذاته قد يصبح هو مستوى التحليل كما ترى النظريات النقدية، وليس الدولة كما في حالة الواقعية، أو النظام الدولي كما في حالة الليبرالية، وقد تصبح "الجماعة" هي مستوى التحليل مثل الحركات الإرهابية والمنظمات الإجرامية التي تستخدم التكنولوجية الحديثة والفضاء السيبراني في عمليات التجنيد والتعبئة والتنظيم بل وسرقة الأموال وتهديد الخدمات الحكومية، وهناك أيضًا مجموعات تمارس العنف عبر الفضاء السيبراني لدواعٍ قيمية وأهداف إنسانية مثل مجموعة "أنونيموس Anonymous"، وقد يكون مستوى التحليل هو "الشركات" والتي تتبنَّى مبادرات إنشاء المدن الذكية وتشغيلها ، مثل "أي بي أم" و"سيسكو" و"سيمنز"، تلك الشركات التي تمتلك بالفعل السيطرة النهائية على إدارة هذه المدن، وبالتالي لا يمكن إغفال دورها في تهديد الأمن القومي للدول أو تحقيقه.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن النظريات النقدية هي الأقدر على تفسير حالة التهديد السيبراني؛ حيث تواجه قصورًا منهجيًّا؛ فالفاعل قد يكون غير معروف من الأساس، كما أن النظريات النقدية غير قادرة على تفسير حالة الفوضى وعدم اليقين التي تسيطر على الفضاء السيبراني.
وهو ما يعني أنه لا تستطيع نظرية واحدة سواء كانت تقليدية أو نقدية تفسير ظاهرة التهديدات السيبرانية؛ لما لها من تعقيدات تكنولوجية وفنية غير مسبوقة، تحتاج إلى تكامل النظريات حتى يمكن فهم أبعادها.
ختامًا، لكي يمكن فهم وتفسير حالة التهديدات السيبرانية في ظلّ العلاقات الدولية لابد من الحديث عن منظور يجمع بين النظرية التقليدية والنقدية بما يحقق التكامل بين النظريات، بحيث يأخذ من النظريات التقليدية وبخاصة النظرية الواقعية مبدأ كون المصلحة القومية تحددها الدولة بعيدًا عن الغايات الأخلاقية،
لا سيما وأن الأمن يشكل معضلة حقيقية في ظل حالة عدم اليقين التي تسيطر على العلاقات الدولية، وحالة الفوضى التي تسيطر على النظام الدولي مدفوعة بالتطورات التكنولوجية، ويأخذ من النظريات النقدية إضافة مستويات أخرى للتحليل غير مستوى الدولة، مثل الجماعات والشركات والفرد في حد ذاته، وإدخال قضايا أخرى غير القضايا العسكرية، خاصة في ظل تأثير التطورات التكنولوجية على منظومة القيم الخاصة بالمجتمع.