IDSC logo
مجلس الوزراء
مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار

أثر الأزمة الأوكرانية على الأمن الأوروبي

 الثلاثاء. 19 أبريل., 2022

أثر الأزمة الأوكرانية على الأمن الأوروبي

 د. أسامة فاروق مخيمر

نظرة على الخريطة توضح لنا الكثير في الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا؛ إذ توضح أن دول وسط وشرق أوروبا التي كانت تشكل منطقة عازلة بين روسيا وغرب أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي (1945 - 1991)، تقلصت تدريجيًّا لتصبح مكونة من دولة واحدة فقط هي أوكرانيا؛ وهو الأمر الذي جعل روسيا تتخوف من اقتراب أمريكي-غربي من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو) -عدوها القديم- من حدودها، لتأمين الجناح الشرقي للحلف الممتد نطاقه من دول البلطيق شمالًا حتى البحر الأسود جنوبًا.

نظرة على الخريطة توضح لنا الكثير في الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا؛ إذ توضح أن دول وسط وشرق أوروبا التي كانت تشكل منطقة عازلة بين روسيا وغرب أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي (1945 - 1991)، تقلصت تدريجيًّا لتصبح مكونة من دولة واحدة فقط هي أوكرانيا؛ وهو الأمر الذي جعل روسيا تتخوف من اقتراب أمريكي-غربي من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو) -عدوها القديم- من حدودها، لتأمين الجناح الشرقي للحلف الممتد نطاقه من دول البلطيق شمالًا حتى البحر الأسود جنوبًا.

على الجانب الآخر، نجد أن أوكرانيا مُحاطة بسبع دول على حدودها، من بينها روسيا وحليفتها بيلاروسيا، في حين أن بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا دول أعضاء في حلف الناتو، وإذا كانت الدولة الحدودية السابعة لأوكرانيا وهي مولدوفا ليست عضوًا في حلف الناتو، لكنها ترتبط معه باتفاق شراكة، كما تقدمت بطلب للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي بعد أسبوع واحد من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ومن ناحيتها رفضت موسكو تمامًا محاولة الغرب ضم أوكرانيا إلى منطقة النفوذ الغربي، وفي هذا الإطار، أكد الرئيس "فلاديمير بوتين" في أعقاب إطلاق "العملية العسكرية الخاصة"، في 24 فبراير 2022، أنه يريد أوكرانيا محايدة ومنزوعة السلاح على حدود روسيا. وفي ضوء ذلك يسعى هذا التحليل إلى رصد التداعيات المختلفة للأزمة على أمن القارة الأوروبية. 

الأمن الأوروبي مخاوف قديمة تتجدد

انقسامات وتعقيدات الأمن في القارة الأوروبية قديمة ومعروفة، وليس من باب المصادفة أن الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ثُم الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) اندلعتا في القارة الأوروبية وامتدت كل منهما إلى باقي دول العالم، لذلك فقد قررت أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ألا تلجأ إلى الحرب مرة أخرى كوسيلة لحل النزاعات فيما بينها، وقررت بدلًا من ذلك اللجوء إلى التعاون الاقتصادي الوثيق بينها في بوتقة الاتحاد الأوروبي، مع التنسيق الأمني برعاية أمريكية في إطار حلف الناتو.

ومع انهيار الاتحاد السوفيتي رسميًّا في ديسمبر 1991، حرصت الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا على استيعاب دول وسط وشرق أوروبا التي كانت تتبع الاتحاد السوفيتي السابق وتدور في فلكه، فمال ميزان القوة إلى جانب المعسكر الغربي الذي توسَّع اقتصاديًّا وعسكريًّا ليقترب من حدود روسيا؛ فأصبح اقتصاديًّا يتكون من 27 دولة في الاتحاد الأوروبي (كانت 28 قبل أن تنسحب بريطانيا من الاتحاد في يناير 2020)، 

و30 دولة في حلف الناتو، مع رفض أية محاولات روسية للدخول في المنظومة الأوروبية الغربية، بل حرصت الولايات المتحدة على وجود روسيا باعتبارها العدو أو الطرف الآخر من المعادلة؛ وهو أمر بالغ الحيوية لتبرير بقاء واستمرار حلف الناتو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومعه حلف وارسو. 

ومن المعلوم أن روسيا حاولت مرارًا الحصول على ضمانات أمريكية-غربية بوقف هذا التمدد نحو حدودها لكنها لم تفلح في ذلك، وبقيت أوكرانيا الدولة الوحيدة التي تشكل منطقة عازلة بينها وبين المعسكر الأمريكي الغربي، حتى بدأت روسيا تستشعر رغبة الغرب في ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو. 

وتشير الوتيرة المتسارعة للحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا وما تشهده من أحداث وتطورات إلى أن الأمن الأوروبي الذي عرف ترتيبات وتوازنات مستقرة نسبيًّا على مستوى القارة ككل منذ نهاية الحرب الباردة يشهد حاليًّا تحديات وتغيرات على وقع الحرب الحالية تخل بتلك التوازنات، وتهدد استقرار القارة الأوروبية، ويمكن إجمال تلك التحديات والتهديدات الأمنية في القارة الأوروبية فيما يلي:

1. التهديد النووي في قلب القارة الأوروبية

لم تشهد أوروبا عمليًّا تهديدًا نوويًّا عسكريًّا حقيقيًّا معلنًا للقارة، فالسلاح النووي هو سلاح للردع في الأساس، وإذا كان هناك تهديد نووي فعلي شهدته القارة الأوروبية، فقد كان هو انفجار مفاعل محطة تشيرنوبيل في أوكرانيا، حيث كانت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفيتي السابق، عندما انتشرت سحابة إشعاعات نووية عبر أوروبا في أبريل 1986 بعد انفجار المفاعل، وعليه فقد كان ذلك التهديد ذا طبيعة مدنية سلمية لا يتضمن أية أهداف عسكرية. لكن مع تفاقم الأزمة الحالية وشعور روسيا بالضغوط المتزايدة عليها من التحالف الأمريكي-الغربي الذي يحيط بها، كان قرار الرئيس "بوتين" في اليوم الرابع من الحرب وضع "قوة الردع الروسية" في حالة التأهب، وهي وحدات تشمل صواريخ وقاذفات وغواصات وسفنًا مسلحة بأسلحة نووية، واتهم "بوتين" التحالف الأمريكي-الغربي باتخاذ خطوات عدائية تجاه بلاده، وقد وصفت الولايات المتحدة تلك الخطوة بأنها خطوة تصعيدية غير مبررة.

أما وجهة النظر الروسية فهي أنه إذا كانت واشنطن لديها إمكانات وخيارات مثل العقوبات الاقتصادية القاسية على روسيا والمسؤولين الروس، فضلًا عن نشر مزيد من القوات العسكرية في أوروبا، ووضع حلف الناتو في حالة تأهب قصوى، ومدِّ أوكرانيا بالأسلحة والمرتزقة، فإن لدى موسكو خيارات أيضًا أكثرها وضوحًا التلويح بالخيار النووي الذي لا يمكن المزايدة عليه. 

وفي السياق ذاته، استولت القوات الروسية على محطة تشيرنوبل للطاقة النووية، في ثاني أيام العملية العسكرية، ما يؤكد أهمية المحطة لروسيا وحاجتها إلى تأمينها وحرمان أوكرانيا من توظيف أهمية الموقع لصالحها، وقد اعترفت المصادر الأوكرانية بفقدان السيطرة على المحطة، وعلَّق مستشار الرئيس الأوكراني "ميخايلو بودولياك" على الحدث بقوله: إن حالة منشآت المحطة غير معروفة، وإن "هذا هو أحد أخطر التهديدات التي تواجه أوروبا اليوم". هذا وتقع المحطة على بعد نحو 110 كيلومترات شمالي العاصمة كييف.

من جانب آخر، في الرابع من مارس 2022، اتهم الرئيس الأوكراني روسيا باللجوء إلى "الرعب النووي"، والسعي لتكرار كارثة تشيرنوبيل بعد ما تردد عن أن نيران القوات الروسية استهدفت محطة زابوريجيا النووية في وسط أوكرانيا، وهي الكبرى في أوروبا، ما أسفر عن اندلاع حريق في مبنى للتدريب، وتضم المحطة ستة مفاعلات نووية، وتوفر جزءًا كبيرًا من احتياجات أوكرانيا من الكهرباء، وعليه دخل العامل النووي بشكل يثير القلق في الأزمة، مضيفًا تعقيدات جديدة للوضع الأمني في أوروبا بشكل غير مسبوق. 

2. المقاتلين الأجانب

أشـارت تقارير استخباراتية روسية إلى أن الولايات المتحدة تعمل على تكوين جماعات من الإرهابيين لإرسالهم إلى أوكرانيا عبر بولندا، وأن الاستخبارات المركزية الأمريكية وقيادة العمليات الخاصة الأمريكية تشرف على العملية بهدف حشد وحدات داعشية جديدة من الشرق الأوسط والدول الإفريقية، وأن قاعدة "التنف" الأمريكية في سوريا، أصبحت معسكر التدريب الرئيس لإرهابيي داعش قبل إرسالهم إلى منطقة "دونباس" شرق أوكرانيا.

كما أفادت تقارير عن مواقع بحثية أمريكية أن بعض قدامى المقاتلين من قوات العمليات الخاصة من جنسيات مختلفة، منهم أمريكيون وبريطانيون وألمان وغيرهم، موجودون في بولندا، ويخططون للعبور إلى أوكرانيا للانضمام إلى "جهود الدفاع عن أوكرانيا وأوروبا والعالم"! وكان الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" قد فتح المجال للأجانب للانضمام إلى قواته بلاده، باعتبار أن ذلك يهدف لحماية الأمن العالمي، وكانت قد ذكرت كييف أن 1000 مقاتل أجنبي قدموا طلبات للقتال في أوكرانيا ضد روسيا.

من جانبها رفضت السلطات السنغالية دعوة السفارة الأوكرانية للسنغاليين إلى القتال في أوكرانيا، وأعربت عن استيائها من الإعلان عن تجنيد 36 شخصًا للمساعدة في الحرب ضد روسيا، وقالت وزارة الخارجية السنغالية في بيان إنها تستغرب نشر نداء عبر صفحة السفارة الأوكرانية في داكار على موقع فيسبوك إلى المواطنين للمساعدة في القتال، وقالت إن السفير الأوكراني في السنغال استُدعِي إلى وزارة الشؤون الخارجية للتحقق من المنشور، وكان الرئيس "زيلينسكي" قد حثَّ الأجانب على التوجه إلى السفارات الأوكرانية في جميع أنحاء العالم للانضمام إلى "لواء دولي" من المتطوعين للمساعدة في محاربة القوات الروسية. 

وتتمثَّل خطورة تلك الخطوة في أن وجود المرتزقة في أوكرانيا قد يحل مشكلة أمام أوكرانيا والتحالف الأمريكي الغربي، وهي توفير مقاتلين لمواجهة روسيا في حرب عصابات تستنزف روسيا وتدخلها في مأزق يصعب الخروج منه، لكن هذا الوضع يخلق مشكلات كبرى في أوروبا كلها وليس في أوكرانيا فحسب؛ حيث يعني نشر العنف والإرهاب بشكل متعمد وغير مسيطر عليه على المديين المتوسط والطويل في القارة الأوروبية. 

هذا وتسعى الولايات المتحدة وأوروبا إلى توريط واستنزاف روسيا في أوكرانيا، كما نجحت من قبل في ذلك بعد غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان (1979 - 1988)؛ حيث قدَّرت المصادر الأمريكية خسائر الاتحاد السوفيتي هناك بنحو 15 ألف قتيل، فضلًا عن الخسائر المادية التي قُدِّرت بمليارات الدولارات. وكانت المخابرات الأمريكية قد شجعت على حشد المقاتلين العرب للقتال ضد الاتحاد السوفيتي، وزوِّدوا بذخيرة وأسلحة، أشهرها صواريخ ستنجر (Stinger) المحمولة على الكتف والمضادة للطائرات، وهو ما نتج عنه بعد ذلك، وبعد خروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، ظهور حركة طالبان وتنظيم القاعدة؛ الأمر الذي عانت منه دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا. وتثور المخاوف من تكرار صعود جماعات مسلحة ومقاتلين أجانب في قلب أوروبا هذه المرة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ما سيؤدي إلى خلق مشكلة جديدة معقدة للأمن في قارة أوروبا.

3. أزمة اللاجئين 

تتزايد أعداد اللاجئين بشكل متواصل مع امتداد أيام الحرب التي تتوسع بدورها مخلفة المزيد من الفارين واللاجئين، وأشارت تقارير الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية إلى أنه مع مرور ستة أسابيع على الحرب في  أوكرانيا، زاد عدد اللاجئين الفارين من البلاد عن 4 ملايين شخص، فيما وصل عدد النازحين داخل البلاد إلى نحو 7.1 مليون شخص، وقد لجأ الأوكرانيون الذين تمكنوا من الفرار إلى الدول المجاورة، وخاصة بولندا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر، وأعلن العديد من الدول الأوروبية حالة التأهب على حدودها بسبب تدفق اللاجئين على الحدود، ووصف المفوض الأوروبي لإدارة الأزمات "يانيس ليناريتش" الحرب الجارية بأنها تسببت في أزمة إنسانية تعد الكبرى منذ عدة سنوات، موضحًا أن التقديرات تشير إلى أن سبعة ملايين أوكراني سوف يضطرون للنزوح من أوكرانيا، وتؤكد الأمم المتحدة والسلطات البولندية أن الأعداد في ارتفاع مستمر. كما أشارت المصادر إلى أن أزمة غذاء حادة تضرب أوكرانيا بسبب الحرب، وأن الفارين واللاجئين للدول المجاورة في حاجة إلى الدعم الغذائي والإنساني. 

4. أزمة الطاقة 

تسبب غزو روسيا لأوكرانيا في ارتفاع قياسي لأسعار الغاز عالميًّا، ومن المعروف أن روسيا أكبر مُصدِّر للغاز في العالم، ولديها أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي، كما أنها من أكبر دول العالم المصدرة للنفط، وتعتمد أوروبا بشكل كبير على الغاز الروسي، وبخاصة ألمانيا التي أعلنت أنها سوف تضار من العقوبات على روسيا في مجال الطاقة. وكان المستشار الألماني "أولاف شولتز" قد أكَّد وقف اعتماد مشروع خط أنابيب الغاز الروسي-الألماني "نورد ستريم 2"، في إطار العقوبات المفروضة على روسيا، والتي تقودها الولايات المتحدة، علمًا بأن 55% من واردات الغاز الألمانية مصدرها روسيا. هذا وقد قفزت أسعار العقود الآجلة للغاز في أوروبا خلال الأسبوع الأول من مارس بنسبة بلغت 30%، وحطمت الرقم القياسي البالغ 2400 دولار لكل ألف متر مكعب، ولم تشهد القارة الأوروبية مثل هذه الأسعار المرتفعة منذ منتصف التسعينيات. بالإضافة إلى ذلك بلغت أسعار النفط مستويات قياسية، وارتفع سعر برميل خام غرب تكساس ليبلغ 110,30 دولارات وهو مستوى قياسي منذ 2013. من جهته ارتفع برميل نفط برنت بنسبة 6,16% ليصل إلى 111,44 دولارًا للبرميل بعدما كان بلغ 113,02 دولارًا، في أعلى مستوى له منذ 2014. من جانبها كشفت الدول الأعضاء في الوكالة الدولية للطاقة عن خطة لضخ 60 مليون برميل من النفط من احتياطيات الطوارئ؛ من أجل تحقيق استقرار الأسواق. هذا الارتفاع القياسي يضع المزيد من الضغوط على الاقتصادية والسياسية على القارة الأوروبية ويفاقم من تحديات الأمن في القارة الأوروبية. 

وختامًا، فقد تسببت العملية العسكرية الروسية في أوكـرانـيــا في ظـهـــور مجموعة متشـابكة من التحديات الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والإنسانية في أوروبا، مثل: تحدي تحقيق الأمن النووي، ووجود مقاتلين أجانب ومرتزقة للقتال في أوكرانيا، وتفاقم أزمة إنسانية للفارين من الحرب، مع تصاعد أزمة في موارد الطاقة. ومن الواضح أن التحالف الأمريكي-الغربي بقيادة حلف الناتو لا يريد التورط في حرب شاملة أو مفتوحة مع روسيا، إنما يريد أن تكون حرب استنزاف طويلة المدى، حربًا لا متناظرة (asymmetrical warfare)، ولكن إذا حدث ذلك فإن القارة الأوروبية سوف تعاني طويلًا من مشكلات أمنية حرصت دائمًا على البُعد عنها، خاصة أن الحدث الجاري يتم في قلب القارة الأوروبية.

تقييم الموقع