الثلاثاء. 19 أبريل., 2022
د. عبد المنعم سعيد
دخل العالم في مدار جديد غير الذي كان فيه منذ انتهاء الحرب الباردة، وبشكل ما بدت روسيا ومن قبلها الصين تسعيان إلى نوع من المراجعة "Revision" للنظام الدولي مرة أخرى، ولم يكن النظام الجديد الذي وُلِد عقب انتهاء الحرب الباردة قائمًا على المراجعات التي جرت له خلال العقود السابقة، وإنما على نظريات جديدة حاولت وضع التغيرات التي ألمَّت بنظام القطبين موضع المسألة، ومن الناحية العملية بات النظام الدولي نظامًا للقطبية الأحادية ممثَّلة في الولايات المتحدة، ومن ورائها حلف شمال الأطلسي (الناتو) والمعسكر الغربي في عمومه، والتي بات عليها أن تعيد تنظيم العالم وفقًا لرؤاها الخاصة، وهو التنظيم الذي اصطُلِح على تسميته العولمة. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية (١٩٩٠ - ٢٠٢٠) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددان الأساسيان للنظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لكن العامين الأخيرين شهدا تغيرات جوهرية، كان أولها أن واجه المعسكر الغربي في عمومه والولايات المتحدة قدرًا كبيرًا من الوهن، تجسَّد في هزيمة الولايات المتحدة، وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط، فضلًا عن تقلبها السياسي الداخلي ما بين مذاهب سياسية متعددة، أدت في النهاية إلى انقسام وتشرذم، وعجز عن التوافق المطلوب في مجتمع سياسي ليبرالي وديمقراطي. وثانيها أن انتشار الجائحة وفشل الولايات المتحدة ومعها المعسكر الغربي في مواجهتها وقيادة العالم في التعامل معها، انتقصا الكثير من السمعة التي تتمتع بها الولايات المتحدة من حيث قوتها وتقدمها التكنولوجي. وثالثها أن الصين التي أخذت في الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمى في النظام الدولي، ومن ثَمَّ بدأت في دعوات لمراجعة النظام الدولي، بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأمريكي. ورابعها أن روسيا، التي عانت كثيرًا خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى، تحت قيادة الرئيس "فلاديمير بوتين"، لكي تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة، الذي لم يحترم اتفاقيات هلسنكي ١٩٧٤ التي اعترفت بالحدود الناجمة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا اتفاقية منظمة التجارة العالمية التي تتعارض العقوبات الدولية الأمريكية مع مقصدها. وعمليًّا أصبح هناك نظام جديد ثلاثي الأقطاب مكوَّن من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، وما بقي هو كيف تجري التفاعلات والعلاقات بينها حتى نتحدث ع
دخل العالم في مدار جديد غير الذي كان فيه منذ انتهاء الحرب الباردة، وبشكل ما بدت روسيا ومن قبلها الصين تسعيان إلى نوع من المراجعة "Revision" للنظام الدولي مرة أخرى، ولم يكن النظام الجديد الذي وُلِد عقب انتهاء الحرب الباردة قائمًا على المراجعات التي جرت له خلال العقود السابقة، وإنما على نظريات جديدة حاولت وضع التغيرات التي ألمَّت بنظام القطبين موضع المسألة، ومن الناحية العملية بات النظام الدولي نظامًا للقطبية الأحادية ممثَّلة في الولايات المتحدة، ومن ورائها حلف شمال الأطلسي (الناتو) والمعسكر الغربي في عمومه، والتي بات عليها أن تعيد تنظيم العالم وفقًا لرؤاها الخاصة، وهو التنظيم الذي اصطُلِح على تسميته العولمة. وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية (١٩٩٠ - ٢٠٢٠) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددان الأساسيان للنظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لكن العامين الأخيرين شهدا تغيرات جوهرية، كان أولها أن واجه المعسكر الغربي في عمومه والولايات المتحدة قدرًا كبيرًا من الوهن، تجسَّد في هزيمة الولايات المتحدة، وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط، فضلًا عن تقلبها السياسي الداخلي ما بين مذاهب سياسية متعددة، أدت في النهاية إلى انقسام وتشرذم، وعجز عن التوافق المطلوب في مجتمع سياسي ليبرالي وديمقراطي. وثانيها أن انتشار الجائحة وفشل الولايات المتحدة ومعها المعسكر الغربي في مواجهتها وقيادة العالم في التعامل معها، انتقصا الكثير من السمعة التي تتمتع بها الولايات المتحدة من حيث قوتها وتقدمها التكنولوجي. وثالثها أن الصين التي أخذت في الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمى في النظام الدولي، ومن ثَمَّ بدأت في دعوات لمراجعة النظام الدولي، بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأمريكي. ورابعها أن روسيا، التي عانت كثيرًا خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى، تحت قيادة الرئيس "فلاديمير بوتين"، لكي تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة، الذي لم يحترم اتفاقيات هلسنكي ١٩٧٤ التي اعترفت بالحدود الناجمة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا اتفاقية منظمة التجارة العالمية التي تتعارض العقوبات الدولية الأمريكية مع مقصدها. وعمليًّا أصبح هناك نظام جديد ثلاثي الأقطاب مكوَّن من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين، وما بقي هو كيف تجري التفاعلات والعلاقات بينها حتى نتحدث عن نظام دولي جديد.
جذور الأزمة الأوكرانية
تاريخيًّا، لم تكن أوكرانيا دولة مستقلة إلا في فترات قليلة كان آخرها عام 1917، وبعدها عادت إلى الحياة مرة أخرى في عام 1991، والحقيقة التاريخية الثانية هي الأوضاع الجيوسياسية لأوكرانيا، فهي عمليًّا تقع في روسيا، كما أن جزءًا من سكانها -تختلف النسب المعلنة من 17٪ إلى 35٪- ينتمي إلى روسيا لغويًّا وإثنيًّا، وبينما صوَّت جزء منهم لضم منطقة القرم مرة أخرى إلى روسيا، فإن الجزء الآخر المتبقي داخل أوكرانيا عبَّر كثيرًا عن رغبته في الانفصال. والحقيقة التاريخية الثالثة معاصرة، وهي أنه منذ الاستقلال الأخير تأرجحت أوكرانيا ما بين الاقتراب من روسيا "اتقاءً لشرِّها"، والابتعاد عنها والاقتراب من المدار الأوروبي والأطلسي "ردعًا لشرِّها" أيضًا. وما بين هذه الناحية وتلك، تولَّدت الأزمة الأوكرانية الراهنة بعد أن دخلت فيها عناصر جديدة ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبينما شهد العقد الأخير من القرن العشرين تفكك الاتحاد السوفيتي، فإن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد يقظة جديدة في القوة الروسية بقيادة الرئيس "بوتين"، الذي وجد في تراجع القوى الغربية خلال هذا العقد فرصة من أجل استعادة روسيا لمكانتها مرة أخرى. ظهر ذلك في سلسلة من الخطوات شملت التدخل العسكري في جمهورية جورجيا لحماية أقليات روسية، ثم بعد ذلك ضم القرم مرة أخرى من خلال إجراء استفتاء، وأخيرًا فإن الختام جاء مع رغبة "بوتين" في الحصول على تعهدات غربية بعدم امتداد حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا، واعتبار ذلك تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي، فضلًا عن منع الحلف من الإطلال على الأراضي الروسية. وعلى الجانب الآخر، الأمريكي والأوروبي، وفي خضم مواجهتهما الحالية مع روسيا، تدافع الولايات المتحدة وحلفاؤها عن حق جميع جيران روسيا، الأوروبيين، في حرية السعي للحصول على عضوية حلف الناتو، وبالفعل، منذ نهاية الحرب الباردة، وسَّعت الولايات المتحدة الضمانات الأمنية التي تقدمها في شكل عضوية الناتو إلى ست دول سابقة في حلف وارسو، وثلاث جمهوريات سوفيتية سابقة. ويواصل حلف الناتو الإصرار على أن بابه يجب أن يظل مفتوحًا، وأن ست جمهوريات سوفيتية سابقة متبقية، أربع منها على الحدود مع روسيا، يجب أن تتمتع بالمثل بالحرية في التقدم والحصول على عضوية الحلف.
التصعيد في الأزمة الأوكرانية
تمر الأزمة الدولية في العادة عبر ثلاث مراحل كبيرة، أولها مرحلة البداية والتي عندها يتحول الخلاف بين دول إلى تناقض، والتناقض إلى اشتباك حول معضلة جوهرية، وهي مرحلة في العادة تحتوي على كثير من خطب تعريف كل ما سبق في واقع من المصالح الحيوية لكل دولة على حدة، وهي كذلك مرحلة كسب الحلفاء وتحديد الخصوم وإظهار عدالة الموقف، هي اللحظة التي تحدَّث فيها الغرب بقيادة واشنطن كثيرًا عن حق كل الأمم في اختيار حلفائها، وترجمة ذلك أن هناك حقًّا مقدسًا لأوكرانيا أن تلحق بحلف شمال الأطلسي، وفي المقابل جرى الكثير من الخطب والتصريحات التي ألقت بها القيادة الروسية بأن وجود حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي، وأن مثل ذلك يعد استمرارًا لسلسلة من التهديدات الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة. وتتمثل المرحلة الثانية من الأزمة في التصعيد، وتبدأ في اللحظة التي تُستخدَم فيها أدوات عسكرية صريحة، وفي هذا الإطار، قامت روسيا بعمليات حشد عسكري أخذ شكل مناورات عسكرية قرب الحدود الأوكرانية، قابلها تقديم الغرب مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وإرسال الولايات المتحدة قوات إلى أوروبا، وإعلان استعدادها لفرض عقوبات اقتصادية على روسيا.
واستمر التصعيد عندما بدأت روسيا مناورات عسكرية في شمال أوكرانيا بالمشاركة مع بيلاروسيا؛ وقيام مجلس الدوما (البرلمان الروسي) بإعلان تأييده للحركات الانفصالية الأوكرانية، وفي المقابل أعلن الجانب الأمريكي الغربي قرب لحظة الحرب، وقد جرى إظهار وحدة الموقف الغربي في المواجهة مع روسيا من خلال تصريحات وتحركات عسكرية وزيارات مباشرة لموسكو تؤكد أن غزو أوكرانيا سوف يعني المواجهة التي سوف تنزف فيها روسيا لفترة طويلة قادمة. بينما تتمثل المرحلة الثالثة في أي أزمة في الذهاب إلى واحد من اتجاهين: الحرب أو المواجهة العسكرية من ناحية، أو التهدئة وخلق آلية دبلوماسية لحل الأزمة من ناحية أخرى. وفي 24 فبراير 2022 شهد العالم الدخول العسكري الروسي إلى أوكرانيا، وبدأ الغرب وحلف شمال الأطلسي خطوات تصاعدية من العقوبات الاقتصادية تُرجِمَت من خلال قطع الخطوط والطرق المرتبطة بالتفاعلات الاقتصادية المختلفة، ومنع تفاعلاتها التي تكوِّن في مجملها الاقتصاد العالمي بكل ما فيه من اعتماد متبادل. وكان إغلاق الباب على مشروع خط الغاز الروسي الثاني "نورد ستريم 2" أولى خطوات ألمانيا لعقاب روسيا؛ حيث كان من المقرر أن يخلق هذا المشروع مع الخط الأول حالة من الاعتماد المتبادل في مجال الطاقة المشتركة، بما يكفي للتفكير كثيرًا قبل الغزو وقبل الإغلاق.
سيناريوهات الأمن الأوروبي في ظل الأزمة الأوكرانية
أولًا- استمرار الحرب وتوحُّد حلف الناتو:
ربما لن تتوقف الحرب الأوكرانية، لأنه ليس من السهل على روسيا أن تقضي على المقاومة الأوكرانية، وهو الشرط الرئيس للحصول على النصر، كما أنه ليس من المحتمل أن يتوقف القتال نتيجة المفاوضات بين موسكو وكييف ما لم يتم رفع العقوبات على روسيا، ووقف القتال ونقل السلاح إلى الجانب الأوكراني. ومن ثَمَّ، ليس مستبعدًا أن يصبح لدينا أزمة مستحكمة نعيش فصولها من العنف الساخن إلى الآخر البارد بينما في كل الأحوال يتغير العالم كما لم نعهده من قبل. هذا وتتمثل المعضلة دائمًا في الأزمات الكبرى ليس في نتائجها المباشرة فقط -حتى ولو كانت اتفاقًا بين روسيا وأوكرانيا، أو بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ولا نستبعد أيًّا منهما في ضوء مساعي الصين النشطة في هذا المسار- وإنما النتائج التي لم يقصدها أو يتصورها أحد. وبالفعل فإنه خلال الأزمة الجارية وقبل أن تنفض أول فصولها، إذ بها تسفر عن تغيرات مهمة. والأصل في الأزمة الأوكرانية أنها كانت على مدى قرب أو بعد أوكرانيا من حلف شمال الأطلسي بأسلحته والاتحاد الأوروبي بأمواله، ونفوذ كليهما في العاصمة كييف. ولذا بات الهدف يتمثل في تقليص وجود الحلف والاتحاد في القارة الأوروبية كلها، ولكن ما حدث فعليًّا هو أن هذه الأطراف باتت قريبة من بعضها أكثر من أي وقت مضى، وفوق ذلك أعلنت ثلاث دول محايدة -فنلندا والسويد وسويسرا- عن بحثها الانضمام للحلف، وذلك على الرغم من أن سجل حياد هذه الدول معروف، وقد صمد في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأكثر من ذلك رأت هذه الدول في حيادها أنه حافظ على وجودها محققًا مصلحة قومية لا شك فيها.
الاحتمال القوى هنا أن الجهد الروسي -حربًا ومفاوضات- لمنع توسع حلف الناتو ربما يقود في النهاية إلى توسيع دائرة الحلف، والأخطر من ذلك هو خروج ألمانيا من الأزمة، وتمكنها من استعادة مكانتها على الساحة الأوروبية؛ فبالنسبة لبرلين كانت نهاية الحرب الباردة تعني السلام أيضًا، وترافق ذلك مع انخفاض جذري في ميزانيات الدفاع الألمانية، وقد كان ذلك محل انتقاد من قِبل الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت ذاته، كانت الدولة تبرز كقوة صناعية تمتص الغاز الروسي وتبيع آلاتها المتقدمة تكنولوجيًّا إلى الصين الصاعدة، كل ذلك مع مظلة أمنية توفرها الولايات المتحدة. ومع بداية الأزمة الأوكرانية حاول المستشار الألماني الجديد "أولاف شولتز" تقريب وجهات النظر من خلال جولة مكوكية لعلها تمنع نشوب الحرب. ولكن الحرب وقعت، وإذ بألمانيا تخرج من الرماد بقوة غير متوقَّعة لكي تقدم مساعدات مادية وكذلك عسكرية أكثر من أطراف أوروبية أخرى. ولكن القرار الذي ربما أدار رؤوسًا كثيرة في موسكو وعواصم أوروبية وعالمية أخرى، أن الحكومة الألمانية قررت إنفاق ١٠٠ مليار دولار إضافي على ميزانية الدفاع الألمانية.
ثانيًا- جهود دبلوماسية للوساطة:
صارت الأزمة الأوكرانية دولية بامتياز، تمس المصالح العليا لكثير من دول العالم، بعد أن مسَّت العمليات العسكرية شغاف الأمن الأوروبي، وأدت نتائجها الاقتصادية إلى تضخم عالمي يوجع ملفات الطاقة والغذاء والبناء في العالم. ورغم أن الاتصالات لم تتوقف بين روسيا وأوكرانيا، وبين روسيا والعديد من العواصم الأوروبية، ولم تتوقف كلية الإشارات والرسائل بين موسكو وواشنطن، لم تتوصل لا لوقف لإطلاق النار، أو لتسوية سياسية للأزمة التي تخندق فيها الروس عند تفوقهم العسكري، بينما التحف الأمريكيون بإحكام العقوبات الاقتصادية. لقد حاول كلا الطرفين عدم استعجال الطرف الآخر، أو استفزازه إلى تصعيد غير مستحب، ولكن كليهما بقي على مطالبه الأولية. وقد حاولت أوكرانيا - وهي الطرف الأضعف في كل المعادلات - تعزيز مقاومتها، وتحفيز التعاطف الدولي تجاهها، بينما سقط لها الكثير من الضحايا بعضهم من المدنيين، ونزف لها الألوف من الجرحى، وخرج منها ثلاثة ملايين من اللاجئين. ويشكل استمرار الأزمة على هذا النحو ضاغطًا كبيرًا ليس على النظام الدولي وعلاقات القوى العظمى فيه فقط، وإنما على النظام العالمي وتفاعلاته أيضًا. والمحصلة هي ما يكفي من آلام المخاض الذي قد تموت فيه البشرية إذا ما استمر التصعيد في الأزمة والعمليات العسكرية، أو يولد من رحم الأوضاع الراهنة تفاهمات واتفاقيات دولية جديدة، ربما تؤسس لنظام دولي جديد يحقق نوعًا من الأمن والسلم الدوليين.
ثالثًا- ظهور أزمة اقتصادية عالمية:
خلقت الأزمة الأوكرانية - منذ أول أيامها بعد عبور حاجز استخدام القوة المسلحة - حالة كبيرة من التضخم العالمي في مجالات الطاقة والغذاء والمعادن وسلاسل التوريد، تُضاف إلى عقدة هذه السلاسل الناجمة عن الجائحة، فضلًا عن الاضطراب الكبير في البورصات العالمية، والأسواق المالية، وأسعار العملات، إلى آخر مفاصل النظام العالمي المعاصر. وفي المستقبل، من المرجَّح أن تخلق الحرب في أوكرانيا مشكلات جديدة لأوروبا في المنطقة، وتؤدي إلى زيادة حادة في أسعار الطاقة والقمح العالمية؛ حيث تمثل صادرات القمح من البلدين (روسيا وأوكرانيا)، ما يقرب من 29% من حجم العرض العالمي، في وقت ترتفع فيه أسعار المواد الغذائية إلى حد كبير بسبب اضطرابات سلاسل التوريد الناجمة عن جائحة كورونا، وهذا من شأنه أن يزيد من خطر انعدام الأمن الغذائي، كما يمكن أن يكون لارتفاع أسعار الخبز - إلى جانب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة - تأثير مزعزع بشدة للاستقرار في الدول الهشة.
رابعًا- الصعود الصيني:
يُعد البعد الصيني في الأزمة الأوكرانية بالغ الأهمية، وربما بفعل توالي الأحداث والتركيز على ساحات الحرب والصدام الاقتصادي، بدت بكين شاحبة الدور في الأزمة كلها، ولكن يشهد الواقع على دور مختلف للصين تجسَّد بداية في ٤ فبراير ٢٠٢٢، عندما صدر البيان الصيني الروسي المشترك بعد لقاء الرئيسين "بوتين" و"شي جين بينج" في الدورة الأولمبية الشتوية في بكين؛ فالبيان كان صيحة مطالبة بمراجعة النظام الدولي الذي استقر منذ نهاية الحرب الباردة، والقائم على الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، التي يستند إليها الأمن والسلام والتعاون في كوكب الأرض. وتضمَّنت الوثيقة أن "الديمقراطية" تمثل قيمة إنسانية عامة وليست امتيازًا لبعض الدول، ويمثل إحلالها والدفاع عنها مهمة مشتركة للمجتمع الدولي بأكمله، ولكن "لدى كل شعب الحق في اختيار سبل إحلال الديمقراطية"، و"ليس من حق أحد سوى هذا الشعب تقييم مدى ديمقراطية دولته"، واعتبار أن محاولات بعض الدول فرْض "معايير ديمقراطية" خاصة بها على بلدان أخرى يمثل إساءة للديمقراطية، ويشكل خطرًا ملموسًا على السلام والاستقرار العالمي والإقليمي، ويقوض النظام العالمي.
مع تصاعد الحرب الروسية الأوكرانية كانت هناك شكوك قوية عما إذا كانت الصين مدركة للنوايا الروسية التي قررت أن تنقل مراجعة النظام الدولي من ساحة البيانات إلى أرض الواقع بتقييد قدرات حلف الناتو على التوسع في أوكرانيا. ورغم توافق الصين مع فكرة المراجعة، فإنها في الواقع لم تنهَر بعد نهاية الحرب الباردة، بل حققت نموًّا اقتصاديًّا وعالميًّا مرموقًا من الناحية الاقتصادية والتكنولوجية، كما كان لديها طريقها الخاص لتحقيق العولمة، ممثلًا في مبادرة "الحزام والطريق"، فضلًا عن دورها في منظمة التجارة العالمية، وفي كونها أصبحت أكبر شريك تجاري في العالم للولايات المتحدة الأمريكية. ويمثل ذلك فارقًا مبدئيًّا بين الصين وروسيا في رؤيتهما للمراجعة، والمرجَّح كما ظهر من سلوك الصين بعد بدء الأزمة أنها لم تكن على كامل المعرفة بالنوايا الروسية، إلا في التوافق على ضرر توسع حلف الناتو داخل القارة الأوروبية؛ فالصين كقوة اقتصادية عالمية ترغب في عالم مستقر يسوده التعاون والوفاق، وفي ضوء مثل هذه النظرة فإنه من الطبيعي أن ترفض الأحلاف العسكرية بما فيها حلف الناتو بالطبع، ولكن من غير الطبيعي أن يكون رفض حلف الناتو سببًا لغزو أوكرانيا دونما بذل محاولات كافية للتفاوض والبحث عن وسائل لتحقيق الأمن المشترك، بدلًا من استخدام السلاح.
وجاء موقف الصين بالامتناع عن التصويت في جلسة مجلس الأمن المخصصة لبحث "الأزمة الأوكرانية" مفاجئًا لكثيرين، ولكنه في الواقع معبِّرًا بشكل دقيق عن وجهة النظر الصينية التي أوضح "وانج يي"، وزير خارجية الصين، أنها تتسق مع مبادئ الموقف الصيني في السياسة الخارجية، وأولها احترام سيادة ووحدة وسلامة أراضي جميع الدول، وهو ما ينطبق أيضًا على القضية الأوكرانية. وثانيها تأييد الصين لمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، الذي لا يجعل تحقيق أمن أي دولة يأتي على حساب الإضرار بأمن الآخرين، وثالثها أن الصين "تتابع تطورات القضية الأوكرانية، والوضع الحالي هو شيء لا تريد الصين أن تراه".
يفتح الموقف الصيني الباب لأمور مهمة، أولها أنه في ظل روح التعاون السائدة في المباحثات فإن الصين سوف تلقي بثقلها مع روسيا لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، لأنها لن تستطيع إحباط العقوبات الاقتصادية الأمريكية، والدخول في مواجهة مع واشنطن، وهو الموقف الذي من خلاله يمكنها مع الولايات المتحدة تقييد توسع حلف شمال الأطلسي. وثانيها أنه رغم وجود خلافات تتعلق بوجود الحلف ذاته، والتحالفات الأمريكية مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، فإن هناك ما يكفي من نقاط الاتفاق الساعية إلى وضع نهاية للحرب الأوكرانية. وثالثها إدراك الطرفين (الأمريكي والصيني) في مباحثاتهما معًا حقيقة أنهما من الناحية الموضوعية يشكلان القوى العظمى في المستقبل القريب، وإذا شاركتهما روسيا في المكانة فإنها سوف تكون مجروحة من نتائج الحرب في سمعتها الدولية، وتواضع مكانتها الاقتصادية. الخلاصة أن البعد الصيني في أزمة الحرب الأوكرانية سوف يحدد الكثير من ملامح النظام الدولي الجديد المقبل.
وختامًا، من المرجَّح أن تزداد التوترات بين روسيا والدول المجاورة الأعضاء في حلف الناتو، الذي تشارك فيه الولايات المتحدة، بسبب الالتزامات الأمنية للحلف. بالإضافة إلى ذلك، سيكون للصراع في أوكرانيا تداعيات وُسعى، خاصة بالنسبة للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وللتعاون المستقبلي في القضايا الحاسمة، مثل: الحد من التسلح، والأمن السيبراني، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وأمن الطاقة، ومكافحة الإرهاب، وأزمة التغيرات المناخية، وربما يمثل ذلك انتكاسة لجهود إدارة "بايدن" لتحويل تركيزها السياسي بعيدًا عن الشرق الأوسط ونحو آسيا كما كانت تنتوي.