مـصــــر وأمــن شــــرق الـمـتـوســـــط: كيـــف يمكن نـزع فتيــل الانفجـــار بعد عام لا مثيل له؟
الخميس. 25 فبراير., 2021
كان عام 2020 من أكثر الأعوام حدة وتوترًا بالنسبة لمنطقة حوض شرق المتوسط، والتي طالما اتسمت بالهدوء والاستقرار النسبي مقارنةً بما كان يدور على اليابسة المطلة عليه والمرتبطة به، في المساحة الممتدة من إيران مرورًا بالخليج ووصولًا إلى مصر ودول المغرب العربي؛ حيث لم تشهد هذه المنطقة، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، تقريبًا اضطرابات شديدة ومواجهات عسكرية ميدانية، مثل التي شهدتها في العام الماضي، إلا خلال حدثيْن بارزيْن على المسرح العسكري البحري، وقد تمثَّل الحدث الأول في حرب أكتوبر المجيدة في 1973، عندما نفذت قوات البحرية المصرية مهام وأعمال قتال معاونة للجيوش الميدانية في سيناء، بالإضافة إلى التعرُّض لخطوط مواصلات البحرية الإسرائيلية في البحر المتوسط وضرب أهدافها المعادية، أما الحدث الثاني فتمثَّل في احتلال القوات المسلحة التركية للشطر الشمالي من جزيرة قبرص في 1974.
أما العام الماضي فقد كان عامًا لا مثيل له في التاريخ الحديث لمنطقة شرق المتوسط؛ حيث التصريحات النارية، والتلويحات المتبادلة بالخيار العسكري، والاجتماعات الطارئة على أرفع المستويات السياسية والأمنية والعسكرية، من القاهرة لأنقرة لطرابلس، مرورًا بأثينا ونيقوسيا وتل أبيب، وليس انتهاء ببروكسيل وباريس ولندن وبرلين وروما وواشنطن، وأصبحت المنطقة على حافة الهاوية والسقوط في مواجهة عسكرية ساخنة، بعد أن احتشدت الأساطيل والسفن الحربية فوق مياه شرق المتوسط، والتي تفوح من تحتها روائح الغاز الطبيعي، المُسيلة للعاب شركات الطاقة العملاقة وحكوماتها، والجاذبة لسفن البحث والاستكشاف والتنقيب، فيما عكف خبراء من مختلف أنحاء العالم، على رسم خرائط محطات تسييل الغاز والأنابيب التي ستحمل الغاز من الدول المنتجة في شرق المتوسط إلى الدول المستهلكة في أنحاء العالم الأربعة.
وقد اقتربت مياه منطقة شرق المتوسط من درجة الغليان في أغسطس الماضي، عندما أصبحت المنطقة على أعتاب مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا واليونان، على خلفية مواصلة أنقرة التنقيب عن الغاز في المناطق المتنازَع عليها بالقرب من الجزر اليونانية، ومما زاد من تعقد الأوضاع التصادم البحري بين فرقاطة يونانية وأخرى تركية، والذي أعقبه قيام فرنسا بنشر سفن حربية لإجراء تدريبات مشتركة مع البحرية اليونانية، علاوة على نشر مقاتلات فرنسية من طراز رافال في جزيرة كريت اليونانية، كما أرسلت دولة الإمارات العربية المتحدة أربع طائرات إف-16 إلى المنطقة ذاتها، ومن جهته، أعلن الجيش اليوناني حالة التأهب القصوى للتصدي لأية محاولات غير مشروعة للتنقيب التركي عن الغاز في المياه اليونانية في عدد من المرات، إلا أن مساعي دبلوماسية متعددة، كان أبرزها تلك التي بذلتها المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» قد أسهمت في نزع فتيل الأزمة مؤقتًا، خاصة بعد أن قررت أنقرة سحب سفن التنقيب وما رافقها من قطع بحرية تركية من المياه اليونانية، وقد عُقدت عدة لقاءات بين المسؤولين العسكريين من الجانبيْن في مقر الناتو لتهدئة الأوضاع.
لماذا اقتربت الأوضاع من الانفجار؟
توجد ثلاثة عوامل أساسية أسهمت، خلال عام 2020، في تأجيج وإشعال الوضع الأمني والعسكري في منطقة شرق المتوسط، والتي اكتسبت أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة كمصدر مهم للطاقة، بعد أن شهدت اكتشافات هائلة للغاز الطبيعي خلال السنوات العشر الماضية، والتي تقدرها هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية بحوالي 345 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج، ونحو 3.5 مليارات برميل من النفط، بالإضافة إلى 9 مليارات برميل من سوائل الغاز الطبيعي (تتراوح قيمتها بين 750 مليار دولار و3 تريليونات دولار حسب التقديرات الشائعة).
ويرتبط العامل الأول بإصرار تركيا على ممارساتها العدائية تجاه غالبية دول شرق المتوســـط، وذلك وفق مفهومها الخاص للقانون الدولي بشأن تعيين الحدود البحرية، وتبنِّي «حلم استعادة الإمبراطورية العثمانية» من خلال توظيف الإرث التاريخي للدولة العثمانية القديمة في دول الجوار الإقليمي، وإحياء «استراتيجية الوطن الأزرق»، والتي تعود جذورها لعام 2006، وقد ظهر كل ذلك من خلال تكثيف أنقرة لتحركاتها العسكرية المستفزة والمزعزعة للاستقرار في المنطقة خلال العامين الماضيين، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كثَّفت تركيا بصورة واضحة الانتهاكات الجوية – البحرية الدورية لكل من قبرص واليونان، وأجرت العديد من المناورات العسكرية الضخمة في المنطقة، مثل مناورات «الوطن الأزرق» (فبراير 2019) التي تعتبر أكبر مناورة بحرية في تاريخ تركيا، علاوة على قيام تركيا بمنع سفينة حفر إيطالية من مزاولة مهامها قبالة سواحل قبرص (فبراير 2018)، واعتراض سفينة إسرائيلية وطردها من المياه القبرصية (ديسمبر2019)، بالإضافة إلى إرسال أنقرة سفنها للبحث والتنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية لليونان وقبرص (منذ مايو 2019 وحتى ديسمبر 2020)، وتوقيع تركيا مذكرتي تفاهم للتعاون العسكري والطاقوي مع حكومة الوفاق الليبية (نوفمبر 2019)؛ مما سمح لأنقرة بتعزيز التموضع العسكري لها في غرب ليبيا، من خلال دعم الميليشيات الإرهابية ونقل المرتزقة السوريين، وتنصيب منظومات صاروخية دفاعية في قاعدة الوطية الجوية.
كما سعت أنقرة أيضا إلى تثبيت وجودها العسكري على الساحل الغربي الليبي، من خلال اتفاقها مع قطر وحكومة الوفاق على جعل ميناء مصراته قاعدة بحرية لها في شرق المتوسط، في خطوة وصفها عدد من المراقبين بأنها تهدف بشكل أساسي إلى تعطيل مشروعات نقل الطاقة من دول شرق المتوسط إلى أوروبا، كل هذه التحركات والسياسات من جانب أنقرة، ضاعفت أزمة الثقة لدى دول المنطقة تجاه نظام الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، وأثارت شكوكًا عميقة حول رغبة هذا النظام في نشر الفوضى وعدم الأمن في المنطقة؛ سعيًا منه لإلهاء الداخل التركي عن مشكلاته الاقتصادية والسياسية بافتعال الأزمات الخارجية.
أما العامل الثاني الذي أسهم في زيادة التوتر وزعزعة الأوضاع الأمنية في شرق المتوسط خلال العام الماضي فهو سباق التسلُّح وتنامي القدرات العسكرية لغالبية دول المنطقة في السنوات الأخيرة، وعادة ما يستفيد المحللون العسكريون من بيانات التسلُّح والحشود العسكرية لدراسة التغير في التنافس بين الدول وعلاقات الصراع بينها؛ لأن زيادة التسلُّح هي من أعراض علاقات الصراع وانعدام الأمن وفقدان الثقة بين الدول، وفيما يتعلق بدول شرق المتوسط، لوحِظ، في السنوات الأخيرة، زيادة الإنفاق العسكري لشراء المعدات العسكرية الحديثة بشكل كبير من جانب معظم هذه الدول، فعلى سبيل المثال، اشترت تركيا غواصات جديدة، وتقوم حاليًا ببناء سفن هجومية برمائية، وتخطط لبناء حاملة طائرات كاملة الحجم اعتبارًا من عام 2021، وتستثمر بكثافة في الطائرات بدون طيار المسلحة، كما أبرمت أنقرة أيضًا صفقة منظومة الدفاع الصاروخية الروسية «إس 400» في عام 2017، فضلًا عن عزمها شراء 36 طائرة مقاتلة سوخوي «سو-35» من روسيا، بدلًا من طائرات «إف – 35» الأمريكية (الشبح)، والتي قررت واشنطن عدم بيعها لأنقرة.
ومن جهتها، اشترت اليونان مؤخرًا عددًا من قوارب «روسين» Roussen السريعة وسفن فئة «سار 4.5» لخفر السواحل، كما أعلن رئيس الوزراء اليوناني «كيرياكوس ميتسوتاكيس» في منتصف سبتمبر 2020، عن «برنامج مهم» لتعزيز القدرات العسكرية للبلاد، ويشتمل على شراء أسلحة بينها 18 مقاتلة رافال فرنسية، وأربع فرقاطات متعددة المهام، فضلًا عن تجنيد 15 ألف جندي إضافي، كما تخطط أثينا أيضا لزيادة حجم إنفاقها العسكري خلال السنوات العشر المقبلة، ليصل إلى 10 مليارات يورو، ويُشار إلى أن اليونان، رغم الأزمة المالية التي شهدتها خلال السنوات العشر الماضية، تأتي في مرتبة متقدمة بين الدول الأعضاء في حلف الناتو من حيث نسبة الإنفاق العسكري بالنسبة لحجم الاقتصاد الوطني، ففي خلال العام الماضي، أنفقت اليونان حوالي 2.29% من ناتجها المحلي الإجمالي على السياسات الدفاعية، علما بأن متوسط حجم الإنفاق الدفاعي في دول الناتو يبلغ ما بين 1.2% إلى 2%.
ومن ناحيتها، قامت مصر أيضًا بتحديث أسطولها من الغواصات وتوسيعه، واشترت حاملتي طائرات هليكوبتر من طراز «ميسترال» بقدرة هجومية برمائية في عام 2016، وفرقاطة صواريخ فرنسية إيطالية من طراز «فرام»، كما اشترت القاهرة أيضًا عددًا من الكورفيتات الصاروخية الفرنسية طراز «جويند» والألمانية «ميكو» والإيطالية «بيرجاميني»، فضلًا عن أربع غواصات هجومية طراز «تايب 209»، وبالتزامن مع تعزيز القوات البحرية المصرية، تم توسيع المدى العملياتي للقوات الجوية المصرية عبر التعاقد على توريد مقاتلات الرافال الفرنسية، فضلًا عن التعاقد على مقاتلات اليوروتايفون الإيطالية، علاوةً على مقاتلات الميج 29 المحدثة الروسية.
ويوضح الجدول التالي مستوى زيادة الإنفاق العسكري لكل من اليونان وتركيا، ويتضح منه أن الإنفاق العسكري التركي في الفترة من عام 2017 إلى 2024 بشكل عام يفوق الإنفاق العسكري اليوناني؛ الأمر الذي فاقم من أزمة الثقة المفقود.
وبالإضافة إلى زيادة الإنفاق العسكري وسباق التسلُّح في منطقة شرق المتوسط، زاد الشعور بانعدام الأمن، مع ارتفاع وتيرة ونطاق التدريبات العسكرية والعمليات البحرية التي قامت بها دول المنطقة بشكل متصاعد في السنوات الأخيرة، ويوضح الشكل التالي القفزة الكبيرة في عدد هذه التدريبات التي شاركت فيها دول المنطقة (قبرص ومصر واليونان وإسرائيل وتركيا) خلال الفترة من 2010 إلى 2020.ومن ناحية أخرى، كان من الواضح أيضًا زيادة عدد المناورات البحرية التي شاركت فيها الدول الكبرى الخارجية (الولايات المتحدة وروسيا والناتو وفرنسا والصين) في منطقة شرق المتوسط خلال العقد الأخير؛ حيث استمر حلف الناتو في ممارسة العديد من التدريبات والعمليات العسكرية في المنطقة، ومنها على سبيل المثال: عملية «حارس البحر» في وسط البحر المتوسط وشرقه، كما دخلت فرنسا وإيطاليا وروسيا والصين في العديد من المناورات المشتركة مع مصر وإسرائيل وقبرص واليونان، وشاركت حاملة طائرات أمريكية التدريب مع اليونان قبالة جزيرة كريت، وربما تكون هذه الزيادة الكبيرة في عدد التدريبات والعمليات البحرية هي ما دفعت ألمانيا، في أغسطس 2020، إلى دعوة جميع الأطراف الإقليمية لوقف التدريبات العسكرية في شرق المتوسط؛ حتى لا يتفاقم التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، ويوضح الشكل التالي عدد المناورات العسكرية التي شاركت فيها القوى الخارجية بمنطقة شرق المتوسط في الفترة من 2010 إلى 2020.
أما العامل الثالث الذي فاقم من خطورة الوضع الأمني في منطقة شرق المتوسط خلال عام 2020، فهو تفشي جائحة كوفيد – 19، في كل دول المنطقة، بغض النظر عن مستواها الاقتصادي أو قوتها العسكرية أو عدد سكانها، أو أي اعتبار آخر؛ حيث أدت هذه الجائحة، وما ترتَّب عليها من إجراءات احترازية لمواجهتها، إلى تدهور الأوضاع الصحية والاقتصادية والاجتماعية في كثير من دول المنطقة، كما تراجعت التوقعات المرتبطة بأن تسهم اكتشافات الغاز الهائلة على مدى العقد الماضي في تحقيق السلام والازدهار في المنطقة؛ نتيجة انخفاض أسعار الغاز العالمية، وتوجُّه عدد من شركات الطاقة العملاقة إلى تأجيل مشروعاتها للغاز في المنطقة، وبالتزامن مع ذلك، أصاب المرض الملايين وأودى بحياة الآلاف، وكانت له آثاره السياسية والاقتصادية السلبية على المنطقة؛ مما ضاعف من التحديات الأمنية لدولها.
فمن الناحية السياسية، تطلَّبت مكافحة وباء كوفيد - 19 توسع الدول في فرضها لإجراءات حجر صحي وتباعد اجتماعي وإغلاق عام أو جزئي للمحال، وإلزام المواطنين بارتداء الكمامات، ومن الناحية الاقتصادية، أدى الوباء إلى تعطيل الحركة التجارية في داخل معظم دول شرق المتوسط؛ بسبب إجراءات الإغلاق للأنشطة الاقتصادية، مما أدى إلى زيادة أعداد المتعطلين الذين فقدوا وظائفهم وتقدموا بطلبات للحصول على إعانات اجتماعية من الدولة، وعلى مستوى العلاقات بين الدول، تم إغلاق المطارات، وتعطلت حركة التجارة وتبادل السلع، وكادت تختفي السياحة في أغلب دول شرق المتوسط، وكل هذه التغيرات الداخلية والخارجية أدت إلى تراجع معدلات النمو في معظم اقتصادات الدول، خاصة في تركيا واليونان، وهو الأمر الذي يدفع كثيرًا من الخبراء الأمنيين إلى التحذير من خطورة استمرار الجائحة على الأوضاع الأمنية في شرق المتوسط في الفترة المقبلة، مشيرين إلى قاعدة بسيطة مفادها أنه كلما قل نمو الاقتصاد الوطني في دولة ما، عانى السكان من عدم الاستقرار الاجتماعي ولجأت الدول إلى الأعمال العدائية ضد الدول المجاورة؛ من أجل التغطية على تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومحاولة تحقيق بعض المكاسب المالية من توسعها الخارجي، ويظهر ذلك في الحالة التركية بامتياز؛ حيث تشير جميع المؤشرات الاقتصادية إلى تدهور الاقتصاد التركي بشكل متسارع، وبالتالي زيادة عدم الرضا الاقتصادي للأتراك، وميل الطبقة الحاكمة إلى تعريض أمن المنطقة للخطر.
آفاق المستقبل
كما يحدث في كثير من الحالات في العالم، أدى الشعور بزيادة التهديدات والتحديات الأمنية في منطقة شرق المتوسط خلال عام 2020 إلى ظهور تقارب سياسي وعسكري بين اللاعبين الإقليميين المتشابهين في التفكير؛ من أجل مواجهة هذه التهديدات، وسوف يتوقف مستقبل الأمن الإقليمي في منطقة شرق المتوسط، إلى حد كبير، على مدى استمرار ومأسسة هذا التقارب في عام 2021 وما بعده، وفي هذا السياق، قد يكون من المفيد الإشارة إلى أهم التوجهات الأساسية التي اتبعتها دول المنطقة لمواجهة التحركات المزعزعة للأمن والاستقرار من جانب أنقرة، والتي كان من أبرزها ما يلي:
1- الإقصاء من الترتيبات الجماعية والردع السياسي:
حيث مثَّل تأسيس «منتدى غاز شرق المتوسط» في عام 2019 - من جانب سبع دول في المنطقة، وهي: مصر، واليونان، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين، وقبرص، وإسرائيل - ثم تحويل المنتدى إلى منظمة إقليمية في سبتمبر 2020 أحد أهم الأدوات السياسية الفعالة لتطويق التحركات التركية المستفزة في شرق المتوسط وردعها، وقد اكتسب المنتدى زخمًا هائلًا مع حرص البنك الدولي على حضور جميع فعالياته، وعرْض فرنسا الانضمام إليه كعضو عامل، وكذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة بصفة مراقبين، ومن جهة أخرى، برزت تحركات دبلوماسية متعددة لتحذير أنقرة من مغبة الاستمرار في سياساتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، فعلى سبيل المثال، حذَّر الاتحاد الأوروبي تركيا من فرض عقوبات عليها إن لم تعدل أنقرة عن سياساتها في شرق المتوسط وليبيا، كما قلل الاتحاد الأوروبي المساعدة التي كانت تُقدَّم لتركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، كما تم تعليق المفاوضات حول اتفاقية النقل الجوي مع تركيا، وقدَّم الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون»، في 10 سبتمبر 2020، مبادرة «باكس ميديتيرانيا» Pax Mediterranea؛ لمواجهة العدوانية المتزايدة من جانب تركيا في البحر المتوسط.
2-الردع العسكري:
حيث عملت غالبية دول شرق المتوسط على ردع تركيا عسكريا من خلال عدة إجراءات، لعل من أبرزها: عقد المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة، فعلى سبيل المثال، اشتركت مصر وفرنسا في ما يزيد على خمسة تدريبات مشتركة في شرق المتوسط خلال عام 2020، وهو ما دلل على رغبة الطرفيْن في رفع قدراتها البحرية وتعزيزها لمواجهة الأعمال العدائية التركية، كما شهدت المنطقة أيضًا عدة مناورات عسكرية بين مصر واليونان (ميدوزا 10)، وبين فرنسا وقبرص، وبين فرنسا والإمارات، وبين فرنسا واليونان، وبين الولايات المتحدة واليونان، ومن ناحية ثانية، تم تفعيل عدد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية لردع الأنشطة المستفزة من جانب أنقرة في شرق المتوسط، مثل: اتفاقية الدفاع المشترك الموقَّعة بين فرنسا وقبرص، كما أعلنت الولايات المتحدة عن اتفاقية أمنية لدعم قبرص، وكانت الولايات المتحدة واليونان قد وقعتا اتفاقية للتعاون الدفاعي في أكتوبر 2019، تسمح بتوسيع استخدام قاعدة «سودا» من جانب القوات الأمريكية، بجانب إقامة ثلاث قواعد عسكرية لواشنطن؛ وذلك لتوثيق الشراكة الاستراتيجية بينهما، وجاءت هذه الاتفاقية وسط تقارير حول احتمال نقل القوات الأمريكية من قاعدة إنجرليك التركية إلى اليونان، ومن جهة أخرى، رفعت الولايات المتحدة حظر التسليح عن قبرص (المفروض منذ 1987) في سبتمبر 2020.
3- وضع الخطوط الحمراء:
حيث رسمت مصر (في 20 يونيو 2020) خطا أحمر لتركيا في ليبيا، أطلقت عليه خط «سرت – الجفرة»؛ بهدف ردع أنقرة عن أي تقدم عسكري باتجاه الشرق الليبي في اتجاه الحدود المصرية، وكانت مصر قد قدمت (في 6 يونيو 2020) مبادرة سياسية لحل الأزمة السياسية في ليبيا؛ وذلك من أجل منع أنقرة من استخدام الساحة الليبية كمدخل للعب دور مؤثر في شرق المتوسط، عبر تقديم دعم لحكومة السراج ونقل الميليشيات والمرتزقة وتزويدهم بالأسلحة والعتاد.
4- شرعنة الحقوق البحرية:
حيث تم توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان في 6 أغسطس 2020، كما تم توقيع اتفاق مماثل بين اليونان وإيطاليا قبل ذلك بحوالي شهر، وكانت القاهرة قد رسمت حدودها البحرية مع قبرص في عام 2003، وأعلنت أنها سوف تعين حدودها البحرية مع فلسطين وإسرائيل بمجرد التوصل إلى تسوية عادلة لقضية الاحتلال الإسرائيلي.
5- تعزيز التعاون في مجال الطاقة:
حيث دخلت القاهرة في اتفاقات وترتيبات لشراء الغاز الإسرائيلي؛ لتلبية حاجات السوق المحلية، وتسييل الفائض وتصديره إلى الأسواق الخارجية من المحطات المصرية على شاطئ المتوسط، وقامت إسرائيل بالفعل ببدء ضخ صادراتها من الغاز الطبيعي إلى مصر، في 15 يناير 2020، عبر خط أنابيب غاز شرق المتوسط، بكميات أولية تبلغ 200 مليون متر مكعب يوميا. ومن ناحية أخرى، شهد التعاون المصري القبرصي في مجال الطاقة تقدما ملموسا، ففي 18 سبتمبر 2018، وقعت القاهرة ونيقوسيا على أول اتفاقية من نوعها في منطقة شرق المتوسط لإنشاء خط أنابيب بحري مباشر لنقل الغاز من حقل أفروديت القبرصي، والذى يحوى نحو 4.5 تريليونات قدما مكعبة، إلى منشأة إدكو للغاز الطبيعي المسال في مصر، وتصل تكلفته إلى حوالي مليار دولار، وفي هذا السياق، من المخطط أن تبدأ قبرص في تصدير الغاز الطبيعي إلى مصر في عام 2024 للمعالجة والتصدير اللاحق إلى الأسواق الدولية.
هذا، ومن المتوقع أن تتلقى هذه التوجهات الخمسة لردع التحركات التركية المزعزعة للاستقرار في شرق المتوسط، دفعة قوية خلال عام 2021 وما بعده، في ضوء وجود توقعات بأن تلعب الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس المنتخب جو بايدن دورا أكثر حزما في مواجهة تركيا، حيث من المنتظر أن تفرض إدارة بايدن عقوبات اقتصادية جديدة على أنقرة؛ بسبب شرائها منظومة «إس 400» الروسية، في ضوء قانون فرض العقوبات على شراء السلاح من دول معادية للولايات المتحدة المعروف باسم (كاستا)، كما أن أنقرة ستكون معرضة أيضا لمزيد من العقوبات الاقتصادية الأمريكية، في ضوء الوضع الحالي لحقوق الإنسان والحريات في تركيا، خاصة أن الحزب الديمقراطي (الذي ينتمي إليه الرئيس المنتخب بايدن) له علاقات وثيقة مع جماعة فتح الله كولن المعارضة للنظام التركي الحالي، كما سيجد الرئيس بايدن نفسه أيضا مدفوعا إلى دعم قبرص واليونان في مواجهة أنقرة، خاصة في ظل بروز خطر الانهيار التام لعملية السلام في قبرص، حيث دعت تركيا رسميا، في أكتوبر الماضي، إلى تقسيم الجزيرة إلى دولتين.
ومع ذلك، من الواضح أن مستقبل الأمن الإقليمي في شرق المتوسط، في عام 2021 وما بعده، سوف يتأثر إلى حد كبير باستمرار غياب مستوى تحرك جمعي يشمل دول المنطقة والدول الخارجية ذات الصلة بإقليم شرق المتوسط؛ ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها:
أولا: أن مواقف الولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي تتسم بالتردد في فرض عقوبات على أنقرة بسبب توجهاتها المستفزة في شرق المتوسط، بل ويرحبون بفكرة انضمام تركيا إلى الترتيبات الجيو-اقتصادية في منطقة شرق المتوسط، دون النظر إلى الاعتبارات الجيو-سياسية التي قد تزيد حدة الصراع في المنطقة، وعلى رأسها استمرار أنقرة في دعم جماعة الإخوان الإرهابية والميليشيات المسلحة التابعة لها في سوريا وليبيا ومصر وغيرها، حيث ترى واشنطن أن الوجود التركي في الأزمة الليبية قد يحافظ على مصالحها في مواجهة الحضور الروسي هناك، بينما تشجع دول أوروبية، مثل ألمانيا وبولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا الحوار مع أنقرة؛ لخوفها من قيام تركيا بالسماح للمهاجرين بعبور حدودها إلى أوروبا حال فرض العقوبات عليها.
ثانيا: استمرار غياب الهيكل الأمني الإقليمي في المنطقة، حيث لم تشهد منطقة شرق المتوسط، سواء خلال الحرب الباردة أو بعدها، تعاونا مؤسسيا كبيرا ومؤثرا بين دولها من أجل تحقيق الأمن، كما أن الخبرة التاريخية تشير إلى عدم تحقق نجاح كبير لأطر أمنية مثل الشراكة الأوروبية-المتوسطية (عملية برشلونة)، ومبادرة الناتو للبحر المتوسط مع سبع دول من جنوب البحر المتوسط، كما تجدر الإشارة أيضا إلى عدم وجود أي بعد سياسي/ أمني في مبادرة الاتحاد من أجل المتوسط.
وفي ضوء ذلك، ينصح عدد من الخبراء بضرورة التفكير الجاد في إعادة النظر في نظام الأمن الإقليمي في منطقة شرق المتوسط، من أجل التعامل الحاسم مع العوامل المزعزعة للاستقرار والأمن في المنطقة، فغياب مثل هذا النظام، في السنوات القادمة، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الأزمات وتصعيد التوتر، ويوجد العديد من الإجراءات التي ربما تسهم، بشكل جاد، في إقامة هذا النظام الأمني الإقليمي الجديد، من أبرزها:
أولًا: يجب دعم التحالفات السياسية للقوى ذات التفكير المماثل، والمستعدة لمواجهة القوى المدمرة التي تهدد مستقبل منطقة شرق المتوسط، وفي هذا السياق، يقترح عدد من الخبراء ضرورة أن يرتقي منتدى غاز شرق المتوسط من كونه تجمعا «طاقويا» إلى أن يصبح تجمعا «أمنيا» لمنطقة شرق المتوسط، ومن ناحية أخرى، من الضروري أيضا التفكير في الترابط الأمني والاستراتيجي بين البحرين المتوسط والأحمر، باعتبارهما ممرا بحريا حيويا للاتصالات (SLOC) بين المحيط الأطلسي وآسيا.
ثانيا: تأكيد أن جميع الشركاء الإقليميين في منطقة شرق المتوسط يمكن أن يجنوا فوائد اكتشافات الغاز الهائلة في المنطقة، من خلال العضوية في منتدى غاز شرق المتوسط، بشرط التمسك بالقواعد القانونية الدولية، واحترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة المرتبطة بحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، ودعم السلامة الإقليمية والبحرية للدول.
ثالثا: حث الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات رادعة على أنقرة، من أجل دفعها لتبني المبادئ سالفة الذكر.
وفي النهاية، ينبغي تأكيد أن أية مواجهة عسكرية في منطقة شرق المتوسط، الغارقة في المنازعات التاريخية المعقدة والمسرح المهم للتنافس الاستراتيجي بين الدول الكبرى في العالم، ستكون لها تكلفة باهظة؛ حيث سيتم تقويض الأمن عبر المتوسط، وتعطيل الاستثمار في مجالات الطاقة، كما ستُلحق ضررًا بالعلاقات الحيوية بين دول المنطقة، وستدهوِر الأوضاع المعيشية لشعوبها، وعليه؛ فإذا لم تجد الأطراف آلية لمواجهة التهديدات الأمنية وإدارة النزاعات فيما بينها فسوف يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة على الجميع.