تقييـــم سـيـــاســـات تطـويـــر منـاهـــج التعليـــم في مـصـــــــر
الخميس. 22 أبريل., 2021
هناك محاولات كثيرة سابقة في تطوير مناهج التعليم في مصر على مدى العقود الثلاثة الماضية، وأغلب تلك المحاولات تركز على تعديل في موضوعات المناهج ومحتواها وطريقة عرضها دون المساس بجوهر الفلسفة التقليدية للتعليم، غير أن ما يحدث الآن من تطوير جذري في المناهج يستحق النظر والتحليل، رغم قلة الدراسات والتقارير والأبحاث والإحصاءات في هذا المجال، خاصة في ظل سعي مصر الآن إلى بذل أقصى جهد في تطوير التعليم، مع قلة الموارد المالية، وقدَّم نظام تعليم بمشكلات مزمنة على مدى أكثر من نصف قرن.
وفي هذا الصدد، قامت وزارتا التربية والتعليم والتعليم الفني، والتعليم العالي والبحث العلمي، بإعداد خطط لتطوير التعليم، تأخذ بعين الاعتبار أن التعليم لم يعد مجرد خدمة عامة بل هو حجر الأساس في بناء مواطن حديث، وقادر على العيش في مجتمع آمن ومستقر ومتقدم ومنفتح على العالم، ومتفاعل بقوة مع ثورات التقدم العلمي في العصر الحديث، وتسعى خطط التطوير أيضًا إلى جعل تطوير التعليم أساسًا للنهوض بالاقتصاد المصري، وتمكينه من الاندماج القوي والتنافسية الفعالة مع الاقتصاديات الدولية المعاصرة، ومن ثمَّ تمثل عملية تطوير المناهج حجر الزاوية في معالجة مواضع الخلل المزمنة في النظام التعليمي، وإحداث نقلة نوعية في نمط جديد من التعليم الحديث.
وعلى ضوء ذلك، تسعى هذه الورقة إلى تقييم الوضع الراهن لتطوير مناهج التعليم في مصر، وخصوصًا جهود الإصلاح الجارية، لبيان مدى قدرة التطويرات الراهنة في تقريب فجوتين كبيرتين تعاني منهما منظومة التعليم في مصر؛ الأولى: تتعلق بالفجوة بين التعليم والتنمية، والثانية: تخص العلاقة بين التعليم وصور التقدم العلمي والتقني الحديث، من ناحية أخرى. وفيما يلي نلقي الضوء على حدود وأبعاد التطور الجاري في مناهج التعليم من منظور العلاقة بين التعليم والتنمية، والعلاقة بين نظام التعليم في مصر، والتطورات الجارية في الثورة الصناعية الرابعة:
الإصلاحات الجارية في تطوير المناهج
تسعى الحكومة المصرية دائمًا إلى تبنِّي سياسات لتطوير المناهج باعتبارها جوهر عملية تطوير التعليم، ويظهر ذلك في الخطاب الذي تتبناه، وفى التصريحات المرتبطة بتكليف وزراء التعليم في كل تشكيل وزاري جديد على مدى العقود الأربعة الماضية، بالإضافة إلى القرارات الوزارية المعنية بشؤون التعليم. وإذا تأملنا جيدًا ما يجري من تطوير في المناهج منذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي يمكن أن نلاحظ اختلافًا واضحًا بين عمليات التطوير قبل عام ٢٠١٦ وبعده، حيث شكَّل هذا العام نقطة فاصلة بين مرحلتين في تطوير المناهج على النحو التالي:
المرحلة الأولى
اتخذت عمليات تطوير المناهج في المرحلة الأولى طابعًا مؤسسيًّا بإنشاء مركز تطوير المناهج التابع لوزارة التربية والتعليم، بموجب القرار الوزاري رقم ١٩٢ لسنة ١٩٨٨، وقرار تحديد اختصاصاته رقم ١٧٦ لسنة ١٩٩٠، للإشراف على كل ما تقتضيه عمليات تطوير المناهج وإعدادها، ومتابعـــــة تنفيذهـا وتقويمهــا قبــل اعتمادها؛ للتأكـــد من فعاليتها وكفايتها.
استقطب المركز عددًا كبيرًا من خبراء التعليم والمتخصصين في الدراسات والبحوث التربوية من أساتذة الجامعات المصرية للقيام بالمهام المنوطة به حتى صار إطارًا بيروقراطيًّا يضم شبكة مصالح من الخبراء والباحثين في مجالات التعليم، والمؤلفين والناشرين للكتب المدرسية، بحيث تحولت وظيفة المركز بمرور الوقت من إطار مؤسسي لتطوير المناهج ودعم اتخاذ القرار في عملية التطوير إلى عائق مؤسسي يحول دون التطوير الحقيقي للمناهج، وهذا ما دفع وزير التربية والتعليم الحالي إلى إعادة هيكلة المركز، وتفكيك شبكات المصالح التي تشكّلت عبر الزمن حول المناهج بصورتها التقليدية.
اتخذت عمليات تطوير المناهج خلال العقود الماضية طابع التحسينات الانتقائية في محتوى المناهج بموجب التغيرات التي كانت تصاحب كل عملية إسناد جديد لتأليف المقررات الدراسية لدى بعض خبراء التعليم وأساتذة الجامعات، كما كانت أي تعديلات تستجيب لوجهات نظر المؤلفين رغم التزامها بالمعايير الرسمية للوزارة، بعض التعديلات كانت تتجاوب مع التطورات الجديدة في التخصص وبالتحديد في مقررات العلوم، وتتجاوب مع الضغوط الاجتماعية والدينية والسياسية حول محتوى مقررات اللغة العربية والدراسات الاجتماعية؛ لارتباطهما الجوهري بأبعاد الهوية المصرية التي يسعى نظام التعليم إلى ترسيخها، كما ارتبطت التعديلات في مقررات العلوم والرياضيات بالضغوط الاجتماعية والانتقادات الإعلامية الموجهة للوزارة في حالات صعوبة أسئلة امتحانات الشهادات العامة.
هناك إصدارات عديدة لدى مركز تطوير المناهج خلال الفترة من ٢٠١٠ وحتى ٢٠١٣ حول معايير وقواعد ومتطلبات التطوير، وأغلبها يتحدث عن أهمية التعليم التفاعلي، والتعليم مدى الحياة، واستخدام التكنولوجيا في التعليم، ولكن دون أن يترتب على ذلك تغيرات حقيقية في فلسفة التعليم داخل المناهج، ومن الواضح أن مشروعات البحوث التربوية التي يعمل بها المركز ظلت منفصلة تمامًا عن عمليات تأليف وتصميم الكتب المدرسية، والتي تُدار بحسابات اقتصادية، وشبكات مصالح معقدة.
في عهد الوزير الأسبق للتربية والتعليم «محمود أبو النصر»، تم إطلاق استراتيجية لتطوير التعليم عام ٢٠١٤، عقب تولي الرئيس «عبد الفتاح السيسي» الحكم باعتبارها تدشن عهدًا جديدًا من التطوير في منظومة التعليم ككل، وقد استندت الاستراتيجية المقترحة إلى عدة محاور أساسية، من بينها المناهج المطورة ، والتي «تدعم الأهداف القومية، وترتبط بالواقع المحلي، وتركز على أنشطة فعالة، تدعم التفكير الناقد، وحل المشكلات، والتعلم مدى الحياة، وقيم المواطنة في مجتمع المعرفة، وتنطوي على آلية تحقق مرنة للوفاء باحتياجات المجتمع المحلي والفروق الفردية بين التلاميذ»، ومن الواضح أن جانبًا كبيرًا من هذا الطموح ظل حبيس العبارات حتى عام ٢٠١٦.
المرحلة الثانية
بدأت معالم هذه المرحلة الجديدة عام ٢٠١٦ من خلال تدشين حدثين مهمين للغاية في إطار تطوير فعلي وجاد للمناهج، الأول: تمثل في إطلاق استراتيجية مصر ٢٠٣٠ للتنمية المستدامة رسميًّا من خلال الحكومة، حيث تضمنت هذه الاستراتيجية غايات كبرى بشأن تطوير التعليم، والارتقاء بجودته، وربطه بالتنمية، والحدث الثاني تمثل في إطلاق مبادرة رئاسية بعنوان «نحو مجتمع يتعلم ويفكر ويبتكر» عام ٢٠١٤، وأثمر ذلك عن إطلاق مشروع بنك المعرفة المصري عام ٢٠١٥، وبدأ العمل به عام ٢٠١٦ باعتباره خطوة مهمة نحو بناء مجتمع حديث، عن طريق إتاحة العلوم والمعارف الإنسانية بشكل ميسر لكل مواطن، ويعد البنك أكبر مكتبة رقمية تضم محتوى معرفيًّا عالميًّا في جميع المجالات، وبما يتناسب مع جميع الأعمار، مع ربط المناهج التعليمية بهذا المحتوى؛ لكي يستفيد منها الطلاب في كل مراحل التعليم، وبما يتوافق مع التطويرات الجارية في المناهج التعليمية، وقد بُنيت فكرة البنك على أساس تكوين محتوى معرفي عالمي في جميع المجالات، ولجميع الأعمار، باستخدام التكنولوجيا مع إتاحة مصادر المعرفة لمائة مليون مصري وبدون أي تكلفة، ويعتمد بنك المعرفة على شراكات مع ٣٣ مؤسسة معرفية دولية على مستوى العالم، مثل مؤسسة ديسكفري التعليمية، وناشيونال جيوجرافيك، وشركة بيرسون لخدمات التقييم، وغيرها من المؤسسات المعرفية.
وهذا يعني أن عملية تطوير المناهج بصورتها الجديدة لم تبدأ من فراغ، وإنما بُنيت على ركيزتين أساسيتين، الأولى: رؤية استراتيجية في التنمية داعمة لتطوير التعليم، والثانية: وعاء معرفي قوي للعبور إلى مجتمع المعرفة، وكلتا الركيزتين تعتمد على إرادة سياسية قوية تقف خلف عملية التطوير.
انطلقت فلسفة التطوير الجديدة في المناهج من رؤية لنظام تعليم وتعلُّم جديد، يتم تصميمه لبناء إنسان مصري منتم لوطنه ولأمته العربية وقارته الإفريقية، مبتكر، مبدع، يفهم ويتقبل الاختلاف، متمكن من المعرفة والمهارات الحياتية، قادر على التعلُّم مدى الحياة، وقادر على المنافسة العالمية، وعلى ضوء ذلك تسعى خطط التطوير الجارية إلى تغيير هذه الثقافة بحيث يصبح التعليم وبناء المهارات هو الأساس الذى يمنح الفرد المكانة الاجتماعية التي يستحقها، ويكون التعليم مرتبطًا بالتنمية ومعززًا للقدرة التنافسية للاقتصاد المصري، وقد نبعت هذه الرؤية من إدراك عميق بأن المناهج الحالية لم تعد قادرة على بناء مواطن قادر على الحياة في القرن الواحد والعشرين، وأن رفع مستوى تصنيف مصر في التعليم عالميًّا لن يتم دون تغيير الثقافة السائدة بشأن التعليم، والتي تكرس الحق في النجاح والدرجات دون تعليم بموجب الحصول على الشهادة الدراسية التي تمنح حاملها مزايا اجتماعية دون مهارات حقيقية.
اتخذت عملية تطوير المناهج طابعًا جذريًّا وممتدًّا على مراحل متعددة وتدريجية، وكانت نقطة البداية عام ٢٠١٧، من خلال الاستعانة بخبراء دوليين ومؤسسات دولية، بالإضافة إلى العمل مع ديسكفري ولونجمان ومؤسسات أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية وفنلندا وفرنسا وسنغافورة، وتمت الاستعانة أيضًا بخبراء التعليم في بعض الهيئات الدولية، مثل: البنك الدولي واليونيسيف واليونسكو وجايكا؛ لبناء المناهج الجديدة وفق الإطار الذي وضعته الوزارة، وساهم ذلك في تطوير المناهج، وتطوير مركز المناهج، ومركز تقييم الامتحانات. ومن خلال فريق عمل من الخبراء المصريين عام ٢٠١٨ تم عمل إطار عام للمناهج الجديدة وفق اختيارات عصرية للمهارات.
وفي مجال التعليم الفني تم الانتهاء من تحديد الجدارات المطلوبة لإتقان المهن بطريقة حديثة تواكب التطور العالمي في التعليم الفني من ناحية وسوق العمل من ناحية أخرى، والتي على أساسها يتم تصميم مناهج جديدة؛ وتشمل تلك الجدارات معايير تقنية وأكاديمية وسلوكية يجب أن يتم تأهيل الطالب على أساسها لكي يكون مؤهلا للحصول على فرص عمل لائقة. وفي هذا الإطار، انتهت الوزارة من تحديد الجدارات لعدد ٥٠ مهنة في مجالات التعليم الفندقي والزراعي والتجاري والصناعي وجارٍ العمل لتحديد جدارات باقي المهن ذات الأولوية في سوق العمل، ولم يتم حتى الآن تصميم مناهج مستندة إلى جدارات لتلك المهن.
المحتوى العلمي للمناهج الجديدة
من واقع تحليل مضمون عينة من المناهج الجديدة في مرحلتي رياض الأطفال والابتدائي يمكن أن نلاحظ تغيرا جذريا في فلسفة التعليم من النمط التقليدي إلى النمط الحديث المعروف باسم « تعليم ٢.٠»، ويتمثل ذلك في بناء مجموعة من المهارات مرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة وما يمكن أن يطلق عليه مهارات القرن الحادي والعشرين الواجب توفرها في مخرجات التعليم. وفيما يلي ستة ملامح أساسية
تعكس هذا التطور النوعي في المضمون العلمي الجديد للمناهج:
(أ) بناء التفكير عبر اكتساب اللغة
تعتمد المناهج الجديدة على بناء التفكير خاصة في المراحل الأولى من عمر الطفل في سن ما قبل المدرسة، ويظهر ذلك في بناء المهارات اللغوية استنادا إلى مبدأ مهم في علوم اللغة الحديثة يرى أن اللغة لا تنفصل عن التفكير، وبالتالي فإن عملية اكتساب اللغة تمر عبر بناء جيد ومنظم للتفكير. وهذا ما اعتمدت عليه سلسلة مقررات بعنوان «اكتشف» باللغتين العربية والإنجليزية والمطبقة على مرحلة رياض الأطفال، وكذلك المرحلة الابتدائية.
يلاحظ أن سلسلة اكتشف ومقرر اللغة العربية ينطوي على تصور جديد لتعليم اللغة للأطفال يختلف تماما عن الشكل القديم والنمطي في تعليم اللغات، والذي كان سائدًا في مراحل التعليم قبل الجامعي، حيث يتم تعليم القراءة في السنوات المبكرة من خلال الجمع بين طريقة تعرف أصوات الحروف ودمج الأصوات لتكوين كلمات من ناحية، وطريقة المدخل الكلي لتعليم القراءة من خلال نصوص قصصية من ناحية أخرى. وهذا يقتضي تنمية الوعي البصري في إدراك أوجه التشابه والاختلاف في الحروف، وتنمية الوعي الصوتي بإدراك الكلمة ونغمة الكلمة وتمييز المقاطع الصوتية للكلمة ودمجها، ويصاحب ذلك تنمية تكوين المفاهيم، والتي تبدأ بالذات، وإدراك العالم الصغير المحيط بالطفل، بدءًا من الأسرة والمدرسة ثم العالم الكبير ممثلًا في البيئة والناس من مختلف الأطياف. وهذا يخالف أساليب التلقين القديمة التي كانت تلزم الطفل حفظ الحروف الهجائية كاملة، وحفظ نصوص كاملة كشرط للقراءة والكتابة.
(ب) استهداف الفهم المتعمق
تتميز المناهج الجديدة بالتركيز على الفهم المتعمق والتفكير بدلًا من الكم الهائل للمحتوى في المناهج الـتـقـلـيــديـــة الســـطـحـيـة، والذي يـعـطـى الأولـويـــة للمعلومات على حساب المعرفة المتعمقة، وكانت تلك المقررات تشكل عبئا كبيرا على الطلاب؛ مما يضطرهم إلى حفظها بأي صورة ممكنة. ولهذا يصاحب المقررات الجديدة موارد تعليمية إثرائية تم إنتاجها بصورة رقمية على هيئة فيديوهات وتطبيقات تفاعلية بها قدر كبير من التشويق ومتعة التعلم.
(جـ) التعلم في إطار التخصصات المتعددة
تعمِّق المناهج الجديدة مبدأ حديث في التعليم والمعرفة يقوم على التداخل بين التخصصات المتعددة، بما يعنى الانتقال من المقررات المنفصلة إلى البناء المعرفي المتكامل بين عدة تخصصات معرفية داخل المقرر الواحد، وهذا يساعد على توسيع إدراك الطلاب للمعرفة بأبعادها المختلفة، والنظر إلى الظواهر من جوانبها المتعددة، وينمى لديهم الأساس الذي تنهض عليه مهارات التفكير الناقد، والقدرة على حل المشكلات.
(د) ربط التعليم بالتعلم
هناك تغير جوهري في فلسفة التعليم من واقع المناهج الجديدة يتمثل في اعتبار العملية التعليمية مزيجًا من نشاط تدريسي يقوم به المدرس في الفصل من خلال المقرر، إلى جانب نشاط إثرائي يجعل الطالب طرفًا إيجابيًّا وفاعلًا في اكتساب المعرفة والمهارات بالتعلم الذاتي، وتساعد الموارد التعليمية الإثرائية على بذل الطالب جهدًا في الفهم والتفكير والبحث، وهذا عكس ما كان يحدث في المقررات القديمة القائمة على التعليم في اتجاه واحد من الكتاب إلى الطالب المتلقي مرورًا بدور المدرس المحوري في التعليم. وبالتالي يصبح الربط بين التعليم والتعلم في المناهج الجديدة قائمًا على عملية تفاعلية تتأسس على ما يبذله الطالب من جهد ذاتي في التعلم.
(هـ) التحول الرقمي وتكنولوجيا الاتصال
ولتطبيق التحول الرقمي في المناهج وطرق التدريس تعاقدت الوزارة على شراء ٧٠٠ ألف تابلت لتوزيعه على طلاب الصف الأول الثانوي عام ٢٠١٧، كما تعاقدت خلال عام ٢٠١٨ على شراء ٧٠٠ ألف جهاز لتوزيعه على الدفعة الجديدة لطلاب الصف الأول الثانوي، وأخيرًا تم التعاقد خلال العام الماضي على شراء ٧٧٠ ألف جهاز جديد سيتم استلامها خلال العام الجاري، وتوزيعها على دفعة الصف الأول الثانوي ٢٠٢٠/ ٢٠٢١ ليصل عدد أجهزة التابلت التي تم التعاقد عليها أكثر من مليوني جهاز، كما انتهت الوزارة من توصيل شبكات الإنترنت فائق السرعة ”فايبر” في ٢٥٣٠ مدرسة.
ومن الواضح أن اللجوء إلى تعميم جهاز التابلت بتكنولوجيا 4G، كان الغرض منه أن يكون بديلًا عن الكتاب المدرسي ووسيلة للتفاعل بين الطالب والمعلم، ولربطه ببنك المعرفة؛ لتمكين الطالب من التعلم الذاتي، وتطبيق منظومة الامتحانات الإلكترونية والاستخدام الإلكتروني للتصحيح والاختبار، وتجربة إنشاء فصول ذكية بدعم من البنك الدولي، غير أن التطويرات الجديدة في استخدام التابلت تواجه صعوبات تتعلق بعدم تجذر ثقافة رقمية في التعليم لدى الطلاب والمعلمين، وارتباط الثقافة الرقمية السائدة بالتسلية وأوقات الفراغ.
(و) المناهج الجديدة والابتكار
توفر سلسلة المناهج الجديدة «اكتشف» محتوى علميًّا متميزًّا يساعد على بناء نظام تعليمي معزز للابتكار؛ حيث يتعلم الطلاب أسلوبًا جديدًا يساعد على طرح الأفكار وتنفيذها ثم مراجعة النتائج المترتبة على التنفيذ بطريقة عملية، ويتم ذلك من خلال تعليم الطلاب قيمة الإنجاز ومهارة الإنتاجية من خلال توليد أفكار بكفاءة عالية، مع إكساب الطلاب ثقافة معززة للابتكار في التعليم من خلال تغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم؛ لكي تكون قائمة على الطموح والفعالية الذاتية والاستقلالية والتحفيز الذاتي والقدرة على التعاون في حل المشكلات، ولهذا تسعى المناهج الإثرائية والمعروفة باسم «توكاستو» TOKKATSU، والمطبقة في المدارس اليابانية تحت إشراف الوزارة، إلى تطبيق جانب من هذه الثقافة الابتكارية القائمة على التحفيز، والتقييم الذاتي، والفعالية الذاتية، والاستقلالية، بالإضافة إلى التواصل والتعاون والمشاركة. وتمثل التوكاتسو مجموعة أنشطة تعليمية ضرورية يتم تعلمها خارج المقررات الرسمية لنمو الطلاب وبنائهم لعلاقات إنسانية جيدة لازمة للارتقاء بهم؛ ففي الأنشطة الخاصة تلك يقوم الطلاب بوضع أهداف لهم، وبذل الجهود بصورة اختيارية ذاتية تطبيقية، ويقومون بالتفكير من تلقاء أنفسهم وتبادل الحوار والمناقشة والبحث عن حل للمشكلات وتوافق الآراء، وهي أنشطة لا يتم إدراجها في إطار المواد الدراسية، ولا تتمثل أهداف الأنشطة الخاصة في تغيير سلوكيات الطلاب داخل المدرسة فحسب، بل تمتد إلى المنزل والمجتمع خارج نطاق المدرسة.
وتعتمد الوزارة، في خططها، على تعميم استخدام التكنولوجيا الحديثة لتعزيز الابتكار، وذلك بالاعتماد على التابليت والموارد الإثرائية الرقمية عمومًا، غير أن هذه الجهود ما تزال تواجه صعوبات خاصة في النظرة الضيقة للتكنولوجيا والتصور الخاطئ بأنها بديل العقل الإنساني في الوصول إلى حلول ابتكارية، إضافة إلى صعوبات تتعلق بالفجوة الجيلية بين الطلاب والمعلمين، والفجوة الجيلية بين الطلاب وأولياء الأمور فيما يتعلق بالاتجاهات نحو التعليم والابتكار، بالإضافة إلى افتقاد المنظومة التعليمية والبيئة المدرسية المرونة الكافية للتعامل مع الطلاب الأكثر قابلية للابتكار، وعدم الجرأة في نقل الطلاب الموهوبين والأكثر ذكاء إلى صفوف أعلى وبمقررات قائمة على التسريع في التعليم، لاعتبارات تتعلق بالضغوط البيروقراطية والاجتماعية حول الجدارة والعدالة في فرص التعليم.
المحتوى التنموي للمناهج الجديدة
تعكس المناهج الجديدة في محتواها مبادئ مهمة في بناء المهارات التي تقتضيها خطط التنمية، وهذا واضح في تحليل مضمون عينة من المناهج الجديدة حتى الآن، ويتمثل ذلك في بعض الملامح الأساسية التي تعكس المضمون التنموي الجديد لمهارات القرن الحادي والعشرين، والتي أصبحت ضرورية لتحقيق الأهداف التنموية، ولتقليل الفجوة بين التعليم والتنمية، وذلك على النحو التالي:
(أ) بناء المهارات
المقررات الجديدة تعتمد على بناء المهارات اللازمة لتكوين شخص قادر على الحياة بكفاءة، ولهذا ترسخ سلسلة مناهج « اكتشف» ثقة الطالب في ذاته وقدرته على اكتساب المهارات اللازمة للحياة الجيدة؛ بحيث لا يكون التعليم لمجرد الحصول على الشهادات، وإنما ربط التعليم بالحياة، ومن بين تلك المهارات: التفكير النقدي وحل المشكلات، والقدرة على الوصول للمعلومات الدقيقة وتحليلها، والمبادرة بالأفكار الجديدة، والتواصل الفعال، والقدرة على التكيف، والنقاش والحوار الخلاق وصولًا إلى تسويات وحل للمشكلات بالتفاوض الفعال ، والعمل الجماعي، على نحو ما تشير مناهج التوكاستو اليابانية، وكل هذه المهارات مهمة للغاية في بناء مخرجات تعليمية جيدة للمستقبل تتمثل في تكوين مواطن إيجابي وطموح، وتكوين قوة عمل متميزة تستطيع المنافسة في سوق العمل، غير أن هذا مرهون باستمرار هذا التطوير في جميع المراحل الدراسية الأخرى، وخصوصًا مناهج التعليم الفني التي ما تزال بعيدة تماما عن هذا النوع من التطوير.
(ب) إدماج القيم في المحتوى المعرفي
تتضمن المناهج الجديدة أسلوبًا في بناء القيم يعتمد على إدماج المهارات الحياتية داخل نسيج المعرفة المتخصصة، والتي يتعلمها الطفل، بحيث تعد المبادئ وقواعد السلوك التي تصوغ شخصية الطالب جزءًا لا يتجزأ من رصيده المعرفي ومتداخل معه في وحدة لا تنفصم، ذلك أن تعلم الحروف والكلمات لا ينفصل أبدًا عن اقتناع الطالب بأهمية التنوع في الحياة، ومن ثمَّ الإيمان بأن اختلاف الحروف والكلمات أساس لبناء الجمل، وعلى نفس المنوال يكون اختلاف الأعياد بين الثقافات أساس البهجة في الحياة، وكل ذلك يوسع من آفاق التفكير وبناء الشخصية ويقوض البنية العميقة في التفكير، والتي ظلت تعزز العقلية المتعصبة في نظامنا التعليمي التقليدي لسنوات طوال.
ويلاحظ أن كتاب التربية الدينية بصورته الجديدة في المرحلة الابتدائية يعتمد على أسلوب جديد في بناء الهوية الدينية لدى الطالب من خلال المحورين الأساسيين اللذين يشكلان جوهر مقررات اللغة وسلسلة «اكتشف»، وهما: تعليم الطفل إدراك ذاته وإدراك العالم من حوله، وفي هذا الصدد يتم تعليم الطفل مبادئ العقيدة من خلال إدراكه لذاته وإدماج الهوية الدينية في إدراك الذات، بالإضافة إلى استيعاب ملامح العالم من حوله باعتبارها تجليات للألوهية في الخلق. ويتخلل ذلك تعليم العبادات وسير الشخصيات الدينية التي تحظى بمكانة دينية وتعليم القيم باعتبارها انعكاسًا لمبادئ العقيدة.
وهذا يعنى أن القيم أصبحت عنصرًا مشتركًا في كثير من المقررات دون أي تداخل مع العقائد الدينية، والتي كانت تستلزم فيما سبق توغل المحتوى الديني الإسلامي في مقررات اللغة العربية والدراسات الاجتماعية، وأصبح التعليم الديني في مدارس التعليم العام لا يتجاوز كتاب التربية الدينية سواء كانت إسلامية أو مسيحية، وهذا يمثل تحولًا إيجابيًّا يحفظ حقوق الطلاب المسيحيين في عقيدتهم، بدلًا من الوصاية الدينية الإسلامية عليهم.
(جـ) الفجوة بين المناهج ومتطلبات الخطط التنموية
يمكن قياس مؤشر فجوة المناهج ومتطلبات التنمية من واقع تقدير حجم الإنجازات التي تمت مقابل الإنجازات المستهدف تحقيقها بما يخدم التنمية. ويلاحظ أن الجهد المبذول في تطوير المناهج حتى الآن خلال السنوات الثلاث من التطوير (٢٠١٨-٢٠٢٠) يتركز في مرحلتي رياض الأطفال والتعليم الابتدائي حتى الصف الثالث فقط بواقع ٥ سنوات دراسية فقط من ١٤ سنة دراسية مستهدفة، وجارٍ
استكمال عمليات التطوير للمناهج المتبقية لنحو 9 سنوات دراسية.
ورغم الجهود المبذولة في بناء جدارات المهن فيما يتعلق بالتعليم الفني، فإن كل مقررات التعليم الفني لم يشملها أي تطوير حتى الآن، وهذا يعنى أن ما تحقق من إنجازات في تطوير المناهج عموما يستفيد منها فقط ٦,٥ ملايين طالب في مراحل عمرية صغيرة، بواقع ٣٠% فقط من المستهدف، وبافتراض استمرار سياسات التطوير يمكن لهؤلاء الطلاب أن يشكلوا مخرجات جيدة لسوق العمل والاقتصاد كمواطنين صالحين بعد مرور ما لا يقل عن ١٣ سنة من الآن، أي بعد انتهاء الفترة الزمنية لاستراتيجية مصر للتنمية المستدامة ٢٠٣٠ بثلاث سنوات.
ومن ثمَّ يظل النظام التعليمي الحالي غير قادر على تقديم مخرجات تعليمية متميزة للاقتصاد وللمجتمع المصري لمدة لا تقل عن ٩ سنوات بالنسبة لخريجي التعليم الفني، ولمدة لا تقل عن ١٣ سنة لمن سوف يستكملون تعليمهم الجامعي، وهذا يعنى أن عملية تطوير المناهج في جميع مراحل التعليم قبل الجامعي والتعليم الفني تحتاج جهودًا مضاعفة قد تستغرق عقدًا كاملًا من الزمن كي يستفيد منها ٢٣,٥ مليون طالب في ٥٦ ألف مدرسة.
الخلاصة
من الواضح أن المناهج الجديدة تعتمد على بناء القدرات المعرفية والمهارات الحياتية وتتجاوب مع تطلعات رؤية مصر في التنمية المستدامة، وترسخ للهوية المصرية، وتتسق مع المعايير العالمية في بناء قدرات الطلاب، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن كل أفكار تطوير المناهج الجديدة كانت لها بدايات سابقة في عهد وزراء سابقين للتربية والتعليم، لكنها تعثرت بفعل عوامل متعددة أبرزها: الانتقائية وانعدام رؤية متكاملة للتطوير، وضعف الإمكانات، وغياب الإرادة السياسية، وكل هذه العوامل لم تعد قائمة باستثناء عائق التمويل. ولا يكفي تطوير المناهج بل يجب أن يصاحبها، وربما يسبقها أحيانًا، عمليات تطوير في البنية التكنولوجية للمدارس، لكي تكون مؤهلة للتطوير الجديد في المناهج وطرق التدريس الملاءمة لها، بالإضافة إلى تدريب المعلمين باستمرار على المحتوى الجديد للمناهج، وأساليب التدريس التفاعلية والإثرائية، وهذه عملية ممتدة تواجه صعوبات بالغة في تقبُّل المدرسين للتطوير، كما تواجه التطويرات الجديدة صعوبات كبيرة تتعلق بالثقافة السائدة في المجتمع، والتي تحتاج إلى جهد كبير في التغير نحو مساندة جهود التطوير الجارية، واحترام مبدأ التعلُّم مدى الحياة، باعتباره السبيل الوحيد لتحسن نوعية الحياة، وبناء اقتصاد قوي ومستدام في ظل مجتمع متماسك.