السـيـــاســـــات الرقـمـيـــة وترشـــيد صناعة القرار
الأربعاء. 16 يونيو., 2021
تعاظم الحديث عن السياسات الرقمية وقضاياها بشكل واضح في الآونة الأخيرة، وخصوصًا بعد أزمة فيروس كورونا، الذي فرض على العالم عملية تحول رقمي في قطاعات عديدة بشكل متسارع، وثمّة مجموعة من الاعتبارات يجب مراعاتها عند طرح مسألة السياسات الرقمية، ينطلق الاعتبار الأول من حقيقة مفادها أنه لا مجال للفصل بين السياسات الواقعية والرقمية، فكلتاهما متكاملتان في الأهداف ومختلفتان من حيث المجال المكاني، حيث إن جغرافيا السياسات الرقمية تتحرك على صعيد الفضاء السيبراني، هذا ويتمثّل الاعتبار الثاني في النظرة التكاملية للسياسات الرقمية، فهي سياسات تتحرك على مستويات متعددة ومجالات شتى، اجتماعية وثقافية وتقنية واقتصادية وسياسية وغيرها، وينطلق الاعتبار الثالث من حقيقة تنظر إلى السياسات الرقمية في إطار عالمي، فعلى الرغم من كونها ترتبط بسياقات الدولة القومية، فإنه ينبغي عدم إغفال البُعد العالمي الذي تتحرك على صعيده.
تُقَدِّم الرؤية الراهنة للسياسات الرقمية في ضوء التنمية المستدامة، والتي تستهدف عملية التحول الرقمي الفعَّال من أجل ترشيد صناعة القرار، وذلك بالنظر إلى فهم السياسات الرقمية وارتباطها بالحوكمة من ناحية، وإدارة المحتوى الرقمي من ناحية أخرى، كما تقدم لأهم المحددات الفاعلة من أجل صناعة سياسات رقمية رصينة، وتعرض الرؤية الراهنة لواقع التحول الرقمي في مصر، وما تستهدفه السياسات الرقمية الراهنة في مصر، وتنتهي بتقديم سبل لتقييم السياسات الرقمية من خلال مجموعة من الركائز التي تقدم رؤية تقييمية شاملة ومؤشرات النجاح المطلوب، ويتجلّى الهدف الرئيس من الطرح في مساعدة صانع القرار في رسم السياسات، وإدارة عملية التحول الرقمي بعقلانية ورشادة.
أولًا: السياسات الرقمية وفرص صناعة القرار
بات التحول الرقمي واقعًا تتعامل معه كل دول العالم مع التفاوت في القدرات والإمكانيات، فمسألة السياسات وصناعتها من الموضوعات المهمة التي شغلت بال العديد من الدول؛ سواء النامية منها أو المتقدمة، لما لها من دور مهم في تحقيق التنمية بكل مجالاتها، ومسألة تحليل السياسات وصناعتها لها جذورها في العديد من العلوم الاجتماعية من علم السياسة، إلى الاقتصاد، والإدارة العامة، وعلم الاجتماع. وجدير بالاعتبار الدور المهم الذي تلعبه صناعة السياسات وصياغاتها في عملية صنع القرار وترشيده، للحد الذي أشار فيه العديد من الخبراء والمتخصصين إلى أن النظر إلى صناعة القرار بوصفه عنصرًا مستقلًا من شأنه أن يقود إلى إعاقة التقدم، فالقرارات تحتاج إلى سياسات إرشادية من أجل ترشيد الخطى نحو القرار السديد في جميع ميادين السياسة العامة، وفي هذا السبيل تلعب «الرقمنة» دورها المهم في عملية ترشيد القرار وصناعته، في ظل عمليات التحول التي يشهدها العالم في مجال الرقمنة (حسانة، 2007, 118).
السياسات الرقمية والمؤسسية الجديدة: تشير التجارب والخبرات التنفيذية إلى أن صناعة السياسات في علاقاتها بترشيد القرار عملية تتسم بالدينامية، ويجب أن تتجاوز فكرة الفردية، فترشيد القرار بحاجة إلى تكاتف جهود العديد من المؤسسات والهيئات والجهات الفاعلة، وثمّة اتجاهات متعددة في صناعة السياسات، من أبرزها وأكثرها تعقيدًا في الوقت ذاته الاتجاه التقليدي الذي يرى أن عملية صنع السياسات هي مسؤولية الحكومة وحدها، نضيف إلى ذلك أن هذا الاتجاه يفتح المجال أحيانًا صوب مشاركة بعض الخبراء والمتخصصين، في سبيل صناعة القرارات المحلية، بالشكل الذي يمكن معه القول بأن صناعة السياسات تتم من أعلى في تدرج هرمي يشمل الحكومة والخبراء المتخصصين، ولكن ثمّة تحولًا نحو ما يمكن تسميته بالمؤسسية الجديدة، تلك الفكرة التي تؤمن بالشراكة والتشبيك من أجل صناعة السياسات، فصناعة السياسات هي نظام شبكي أفضل في سبيل صنع القرار، ولكن هذا التشبيك مرتبط بالاعتماد على ثلاثة محددات مهمة للتشبيك الفعَّال: يرتبط الأول بتحديد الالتزامات الاجتماعية للجهات الفاعلة في صناعة السياسات، والثاني مرتبط بضرورة مراعاة السياسات العامة من أجل فهم أفضل عند صناعة محتوى فاعل، والثالث مرتبط بسبل التوصل إلى اتفاق عام حول صناعة السياسات. (Bogason,2006,98).
تتطلب العقلانية في صناعة السياسات الرقمية النظر إلى النظام السيبراني على أنه نظام اجتماعي، يحتاج إلى بناء سياسات رقمية جديدة، وتتعدد ملامح هذه السياسة الرقمية الجديدة، وأولها يتمثل في النظر إليها على أنها سياسات تبادلية وليست هرمية؛ حيث إنها تقوم في بنائها على التشبيك بين العديد من الجهات الفاعلة؛ سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو التقني، وثانيها أنها سياسات تشاركية لا تقوم فقط في صناعتها على الحكومات، ولكنها بحاجة إلى المبادرات والشراكات بين الجهود الرسمية وغير الرسمية، وثالثها أنها سياسات عابرة للحدود، فالسياسات الرقمية يجب أن تراعي أنها تتعامل مع مجتمع عالمي، وليس مجتمعًا محليًّا محدودًا، فيجب مراعاة ذلك عند صناعتها، ورابعها أنها سياسات لا تقتصر على جانب واحد من جوانب الحياة، ولكنها سياسات تخص جميع ميادين الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتقنية، وخامسها يتمثّل في مراعاة التفكيك الذي يتعرض له المجتمع الرقمي، فالمجتمع الرقمي في حد ذاته غير متجانس (Bogason, 2006,101).
حوكمة الإنترنت والتنمية المنشودة: تستهدف السياسات الرقمية ترشيد صنع القرارات، وقد أكدت التقارير الدولية أن الرقمنة قد فتحت المجال أمام عبور بوابات التنمية بكل مجالاتها، ومنها تقرير إفريقيا الرقمية الصادر عن البنك الدولي، والذي احتوى على عنوان فرعي يوضح العلاقة القوية بين السياسات الرقمية والتنمية، مفاده «أن التكنولوجيا يمكن أن تكون منصة انطلاق لنمو أسرع»، وقد أكد التقرير المساهمة المهمة التي تقدمها التكنولوجيا الرقمية في تعزيز الكفاءة في كل القطاعات، وتقديم الخدمات على نحو أفضل، وذلك وفقًا لما ذهب إليه فيرا (فيرا، 2019، 27).
هذا، وتتطلب السياسات الرقمية الرشيدة التحول نحو إدارة الإنترنت، حيث صياغة المبادئ والمعايير والقواعد المشتركة، وتطبيقها على أنشطة الإنترنت، وفي هذا السبيل يمكن تعريف إدارة الإنترنت على أنها «عملية تطوير وتطبيق المبادئ والمعايير وإجراءات صنع القرار والبرامج المشتركة التي تقود إلى تطور الإنترنت، وذلك عبر الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني». وثمّة منظوران في التعامل مع حوكمة الإنترنت: المنظور الأول هو منظور ضيق، ويقتصر على إدارة البنية التحتية والتقنية، أما المنظور الأوسع فيرتبط برسم السياسات وتناول موضوعات مثل: حرية التعبير والخصوصية، وحرية النشر والتجارة، والفجوة الرقمية، وغيرها من القضايا المتعددة. وتتكامل الرؤيتان معًا من أجل حوكمة رقمية ناضجة؛ حيث إن الرؤية الحكيمة للحوكمة ترتبط بالتوسع في البنية التحتية، بالإضافة إلى رسم السياسات على المستوى الواسع (Arno, 2018, 514).
وثمّة جدل حول حوكمة الإنترنت، حيث تذهب بعض الرؤى إلى القول بأن الإنترنت مكان يتسم بالحكم الذاتي، ويصعب إخضاعه للتنظيم الحكومي، وثمّة رؤية أخرى تذهب إلى أنه في ظل عملية التعقيد والتحول نحو المجتمع الرقمي يصعب عدم تدخل الحكومات في تنظيم شؤون الإنترنت، وتذهب الآراء العميقة لحوكمة الإنترنت إلى أنها تعمل في إطارين، أحدهما محلي، والآخر عالمي؛ إذ أن المجتمع الرقمي غارق في العالمية، وليس مجتمع محلي بالأساس، ومن هنا يصعب أن تتم القطيعة مع السياق العالمي والتخلف عن رَكْبه، وذلك وفقًا لما ذهب إليه أرنو (Arno, 2018, 515).
ثانيًا: السياسات الرقمية من أجل تحول رقمي فعَّال
ترتبط السياسات الرقمية بالتحول الرقمي ارتباطًا وثيقًا، فالعلاقة بينهما لا تنفصل عراها؛ فإذا كان التحول الرقمي يسعى إلى تغيير طرق الإدارة التقليدية ونظمها بحيث تعتمد على التكنولوجيا الرقمية، بالشكل الذي يقود إلى تقديم الخدمات بشكل أيسر وأسرع وأسهل؛ فإن عملية صنع السياسات الرقمية تستهدف تحقيق هذا التحول بشكل فاعل ورصين.
إن عملية التحول الرقمي في كل القطاعات ليست من السهولة بمكان، فهي بحاجة إلى سياسات اجتماعية رصينة، تلعب أدوارًا في هذا التحول، وتراعي عددًا من الأبعاد المهمة منها:
1. التطور المستمر للبنية التحتية: تحتاج التحولات الرقمية إلى بنية تحتية قوية، تسمح بإجراء العمليات التي تتم في إطارها، وذلك على مستوى البنية التحتية المرتبطة بالكابلات والكهرباء، والبنية التحتية الرقمية المتعلقة بالشبكات والتطبيقات، وهذه المسألة تحتاج إلى تخطيط استراتيجي يخرج من رحم سياسات اجتماعية رصينة، بحيث تقوم هذه السياسات بتحديد التقنيات التي يمكن التعامل من خلالها مع السحائب الإلكترونية، وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، وكلها أمور مهمة من أجل تحقيق التحول الرقمي الفعَّال، فالمراد في هذا الصدد أن تقوم السياسات الرقمية بتبني رؤى تسعى ليس إلى توفير البنية التحتية فقط، ولكنها تستهدف مواكبة التطورات التقنية التي تطرأ على هذا الأمر، والاستمرار في هذا التطوير من أجل تحول رقمي آمن.
2.السعي نحو تحقيق العدالة الرقمية: يرتبط ذلك بتحقيق قدر من العدالة الرقمية، حيث توفير سبل النفاذ إلى الشبكة لجميع المواطنين بأيسر السبل، وتعني العدالة الرقمية ببساطة بتوفير مساحة آمنة لجميع الفئات للتعامل مع المنظومة العامة للرقمنة، فهي توفر -على نطاق واسع- عدالة الوصول إلى الخدمات الرقمية لجميع المواطنين دون تمييز، وفي سبيل ذلك لابد من توافر ثلاثة شروط: أولها يتمثّل في توزيع عملية النفاذ والوصول إلى الخدمات الرقمية المقدمة، وثانيها يتمثل في الاعتراف بالتنوع داخل سياقات الرقمنة، وثالثها يتمثّل في المشاركة في المساحات المختلفة من الرقمنة، وبذلك تعد العدالة الرقمية من أهم مقومات السعي نحو تحول رقمي بنَّاء (Khashabi, Kretschmer, 2020, 87).
3. القضاء على الأمية الرقمية: من الأدوار المهمة عند صناعة السياسات الرقمية القضاء على الأمية الرقمية، بحيث يتم توفير السبل للمواطنين للوصول إلى الخدمات الرقمية، ويقصد بالأمية الرقمية «الافتقاد إلى مجموعة المهارات والمعارف والمواقف المطلوبة للوصول إلى المعلومات الرقمية، واستخدامها، وتقييمها بشكل فعَّال وكفاءة أخلاقية»، فمما لا شك فيه أن الأمية الرقمية تمثِّل حاجزًا كبيرًا للعبور إلى التحول الرقمي المطلوب، لذلك على السياسات الرقمية أن تفطن إلى هذا الأمر جيدًا، وللقضاء على الأمية الرقمية يجب التركيز على ثلاثة محاور أساسية: يتمثّل الأول: في التعرف على مهارات تشغيل التقنيات الرقمية واستخدامها، مثل أجهزة الكمبيوتر، والأجهزة اللوحية، والهواتف الذكية، والثاني: مرتبط بمهارات الوصول إلى استخدام خدمات الحكومة الرقمية، ويتحدد الثالث: في تقييم الخدمات الرقمية، وليس المقصود بالتقييم هنا التقييم الهدَّام، ولكن التقييم الذي يقود إلى تحسين الخدمات المقدمة للجمهور (La rose, Detlor, 2021, 2).
4. تحقيق الأمن السيبراني: يتحدد الأمن السيبراني في حماية الأفراد والجماعات والدول عبر الشبكة من التهديدات المحيطة بهم، وينقسم الأمن في هذا السياق إلى ثلاثة مستويات: الأول أمن الأفراد والمتعلق بالخصوصية وانتهاكها، وسرقة الحسابات الشخصية، بل وصل الأمر إلى تهديد الحياة الآمنة عبر اختراق الجسد عبر الإنترنت فيما يعرف بقضايا أمن إنترنت الأشياء internet of things، أما المستوى الثاني فهو المستوى المرتبط بالمؤسسات والتنظيمات، فثمّة تهديدات أمنية على أنظمة الشركات والمؤسسات واختراق خصوصيتها وأمنها المعلوماتي، بالشكل الذي يهدد المكاسب المرتبطة بها، أما المستوى الثالث فهو المستوى المرتبط بأمن المجتمعات نفسها؛ حيث زاد الحديث عن مفاهيم جديدة مثل الإرهاب السيبراني، وهو نمطان: الأول مرتبط باستخدام الميديا الجديدة في حشد الأفراد وتعبئتهم وتجنيدهم، والتجسس... وغيرها، والثاني مرتبط بالإرهاب عبر الشبكة مثل اختراق الحواسيب الخاصة بالدول كالمستشفيات، ومحطات الطاقة، والمؤسسات العسكرية... وغيرها. وكلها تثير مجموعة من المشكلات الخاصة بأمن المجتمعات، هنا وجب عند وضع السياسات الرقمية التركيز بشكل كبير على تحقيق الأمن السيبراني على كل مستوياته، وفقًا لما ذهب إليه رشاد (رشاد، 2020، 98).
نستطيع القول إن مسألة التحول الرقمي لكي تؤتي ثمارها لابد أن تراعي هذه المحددات، وأن تخضع لعملية تطور مستمر وتقييم متواصل من أجل تحسين الخدمات من جهة، وتحقيق النفاذ إلى جميع المواطنين من جهة أخرى.
ثالثًا: مصر الرقمية ... الواقع والسياسات
حقّقت مصر تقدمًا في مجال التحول الرقمي، والجهد الذي تبذله وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات هو جهد ملحوظ في هذا الجانب، والتفكير في سياسات مصر الرقمية في ضوء التنمية المستدامة بات من الأمور الواضحة، خاصة بعد أزمة فيروس كورونا التي أحدثتْ إسراعًا في عملية التحول الرقمي، وهنا وجبت الإشارة إلى واقع السياسات الرقمية في مصر من خلال الجهود التي قدمتها وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في ضوء ما أطلقت عليه مسمى «مصر الرقمية»، بالإضافة إلى عدد من المبادرات التي أولتها الوزارة اهتمامًا خاصًا، منها مبادرة «بكره ديجيتال»، ويمكن في هذا السياق طرح هذه الرؤى من أجل إبراز الجهود المبذولة.
1. مصر الرقمية: يستهدف هذا المشروع الإسراع بعملية التحول الرقمي في ضوء رؤية شاملة وخطة متكاملة، بحيث ترتكز هذه الخطة على ثلاثة محاور رئيسة، أولها يتمثل في التحول الرقمي، وثانيها يتحدد في المهارات والوظائف الرقمية، وثالثها يتمثل في الإبداع الرقمي.
المحور الأول - التحول الرقمي: يستهدف هذا المحور عددًا من الأهداف، يتمثل أبرزها في تحسين الأداء الحكومي، والتشبيك مع جميع المؤسسات من أجل تطوير الأداء الحكومي، بالإضافة إلى تحويل العديد من الخدمات الحكومية إلى المجال الرقمي، مثل: (الأحوال المدنية، ومحاكم الأسرة، والتموين، والكهرباء، والزراعة، والشهر العقاري، والمرور، وصندوق الإسكان الاجتماعي، ودعم التمويل العقاري، والهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة)، وتقدم «مصر الرقمية» خدماتها للجمهور عبر خمسة منافذ متمثلة في: (البريد، ومنصة مصر الرقمية، وتطبيقات الهاتف المحمول، ومراكز الاتصال، ومراكز خدمة المواطنين)، وذلك وفقًا لــ (مصر الرقمية: التحول الرقمي، وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات).
المحور الثاني - المهارات والوظائف الرقمية: يستهدف تدريب المواطنين على التعامل مع ما يفرضه التحول الرقمي من تحديات، على أن يتم تدريب جميع الفئات والشرائح الاجتماعية، بما فيها المرأة وذوو الإعاقة، والطلاب والخريجون، بل استهدف هذا الجانب التوسع نحو الدائرتين العربية والإفريقية، واستغلال الإمكانيات الواسعة للفضاء السيبراني في تدريب الشباب على المستوى العربي والمستوى الإفريقي، وذلك عبر التشبيك الفعَّال في سبيل بناء كفاءات وقدرات رقمية، كما استهدف المحور محو الأمية الرقمية، وتأسيس برامج تدريب تكنولوجي، وإعداد جيل من العمالة الفنية القادرة على المنافسة، والمساعدة في منح رسائل ماجستير من خلال مبادرة بناء مصر الرقمية بالتعاون مع كبرى الشركات التكنولوجية، وذلك وفقًا لــ (مصر الرقمية: المهارات والوظائف الرقمية، وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات).
المحور الثالث - الإبداع الرقمي: يستهدف هذا المحور تحفيز الإبداع وتشجيع ريادة الأعمال، وتحويل مصر الرقمية إلى منبر للابتكار، ليس على المستوى المحلي فحسب، ولكن على المستوى الإقليمي، وذلك اعتمادًا على التشبيك وتضافر الجهود، إيمانًا بمبدأ العمل التعاوني؛ حيث تتكاتف جميع الأطراف الفاعلة بداية من القطاع الحكومي، وتعاونه مع المؤسسات البحثية، والمؤسسات المالية، والقطاع الخاص، وقد تمخض عن هذه الرؤية إنشاء المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي، وذلك في نوفمبر 2019، بالتعاون بين المؤسسات الحكومية والأكاديمية، ويرأسه وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، كما يشتمل الإبداع الرقمي على تطبيق برامج الذكاء الاصطناعي في عملية دعم واتخاذ القرار، وذلك عبر الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، وتحديد آليات المتابعة، مع اقتراح السياسات الوطنية لتطوير الذكاء الاصطناعي، وتطبيق الذكاء الاصطناعي من أجل تقديم حلول ذكية مستدامة، كما يشتمل المحور على دعم ريادة الأعمال للشباب، عبر تقديم الدعم الفني والخدمات التي تيسر عمليات دعم الريادة في الأعمال، ويحتوي المحور أيضًا على دعم إنشاء مدينة المعرفة، وتقديمها بوصفها مركزًا إقليميًّا للابتكار والإبداع، بحيث تشتمل على مقرات الشركات العالمية والمحلية المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات، وذلك وفقًا لما ورد في (مصر الرقمية: الإبداع الرقمي، وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات).
2.المبادرات الرقمية «بكره ديجيتال» نموذجًا: تشجع وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المبادرات الداعمة للتحول الرقمي، وعند صناعة السياسات الرقمية يجب أن نضع في الاعتبار الدور الفاعل الذي تلعبه المبادرات، ويمكن في هذا السياق تقديم نموذج لإحدى المبادرات المهمة، والتي تخص النشء، حيث جاءت هذه المبادرة تحت مسمى «بكره ديجيتال»، وتستهدف هذه المبادرة الفئة العمرية من ( 14- 40 عامًا)، وتسعى نحو دعم قدرات الشباب المصري وتطوير قدراته الرقمية للتعامل مع التكنولوجيا بشكل عام، ورفع الوعي الرقمي، والتنسيق مع مايكروسوفت لتقديم برامج تدريبية للفئة العمرية المستهدفة، وشملت هذه المبادرة ثلاثة محاور: تمثل المحور الأول في عقد لقاءات وورش عمل حول موضوعات متصلة بالتحول الرقمي، على أن تتم بالتنسيق مع مراكز الشباب، وارتبط المحور الثاني بعقد ندوة أسبوعية على مستوى المجتمع الرقمي طوال مدة ثلاثة أشهر، تتضمن أهم موضوعاتها الذكاء الاصطناعي، وريادة الأعمال، والتخطيط الوظيفي، ومحو الأمية الرقمية، وتضمّن المحور الثالث تأهيل المتدربين للحصول على شهادات اعتماد إخصائي مايكروسوفت، وذلك وفقًا لما جاء في (مبادرة بكره ديجيتال: وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات).
مما لا شك فيه أن هذه السياسات الواقعية والمبادرات، لها دورها البارز في عملية التحول الرقمي، وتعد جزءًا مهمًا في صناعة السياسات التي تستهدف دعم القرار وترشيده، ونشر الوعي الرقمي لدى الفئات والشرائح الاجتماعية في المجتمع المصري.
رابعًا: محددات تقييم السياسات الرقمية
يعد مبدأ تقييم السياسات الرقمية من الركائز المهمة لصانع القرار، من أجل التعرف على نواتج الجهود المبذولة في إطار الرقمنة، فمن الأهمية بمكان التعرف على النتائج المتوقعة من عوائد السياسات الرقمية، وتقييمها، ومن أهم أدوار السياسات الرقمية تقييم ذاتها، للتعرف على أوجه القوة واستثمارها، وأوجه الضعف ومحاولة تجنبها، وثمّة محاولات عديدة لوضع أسس لتقييم السياسة الرقمية، ومنها المحاولة المبكرة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2009؛ حيث وضعت ثلاثة مؤشرات يمكن من خلالها تقييم السياسات الرقمية، تمثَّل المؤشر الأول في تقييم المواقع الإلكترونية التي تقدم خدماتها للجمهور، والثاني تمثل في
تقييم استراتيجيات وتدخلات الحكومات في السعي نحو الرقمنة، والثالث جاء متمثلًا في التدخلات الرقمية من أجل تحقيق الأمن السيبراني (Frans, Bastian, 2012, 115).
خاضت العديد من الدراسات في تقييم السياسات الوطنية في مجال الرقمنة، ومنها دراسة سياسات المحتوى الرقمي الوطني، والتي طورت مؤشرًا لقياس جودة السياسات الرقمية في عشر دول، منها سبع دول عربية، هي: (مصر– الأردن– السعودية– سوريا- فلسطين- لبنان– المغرب)، وثلاث دول أجنبية متمثلة في: (اليابان - البرازيل - جنوب إفريقيا)، ومن المهم في هذا السياق التركيز على أهم المؤشرات التي من الممكن أن تفيد صانع السياسات في إجراء عملية التقييم، وقد قام الكاتب بعملية دمج بعض العناصر مع بعضها من أجل التوضيح، وتم في ذلك الاعتماد على رامي عبود (Ramy Abboud, 2013, 296).
الركيزة الأولى: مميزات صناعة السياسات الرقمية
مؤشـــرات القيـاس:
• الفهم الشامل للسياق المحلي.
• التأكيد على دور المحتوى الرقمي في التنمية المستدامة.
• التنسيق بين الجهات المختصة في صناعة السياسات الرقمية.
• التكامل مع السياسات المحلية في مختلف القطاعات.
• الربط بالأهداف الوطنية والمشروعات العملاقة.
• تطوير نشر المحتوى الرقمي.
• التطلع إلى المحتوى الرقمي الإقليمي، والعالمي.
• التطلع إلى دور نشط في مستقبل المحتوى الرقمي العالمي.
الركيزة الثانية: مميزات تنفيذ السياسات الرقمية
مؤشـــرات القيـاس:
• الشفافية في عرض السياسات.
• السعي للشراكة على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي.
• إتاحة الفرصة لشراكة المجتمع المدني.
• رفع الوعي بسياسات التحول الرقمي.
• التخلص الآمن من النفايات الرقمية.
الركيزة الثالثة: متطلبات تنفيذ السياسات الرقمية
مؤشـــرات القيـاس:
• إنشاء هيئة حوكمة فعالة.
• تعزيز قدرة القوى العاملة الرقمية.
• تطوير كفاءة القادة الرقميين.
• إشراك الخبرات الوطنية وجذب الخبرات الوطنية من الخارج.
• جذب خبراء المحتوى الرقمي العالمي.
• جذب الاستثمار الأجنبي في الرقمنة إلى المجتمع المحلي.
• دعم المنشآت المتوسطة والصغيرة، وتوفير الموارد المالية اللازمة.
• دعم الابتكار والإبداع الرقمي المحلي.
• دعم البحث الأكاديمي في مجال الرقمنة.
• دعم خدمات استضافة المحتوى الرقمي المحلي.
• التعزيز المستمر لخدمات الإنترنت.
• نشر خدمات الهاتف المحمول.
• نشر أجهزة الكمبيوتر بين الأفراد والمؤسسات.
• تخفيض تكلفة الوصول لمنظومة/ بيئة المحتوى الرقمي.
• نشر المهارات الإلكترونية لاستخدام المحتوى الرقمي.
• تعزيز مستوى الأمن الرقمي.
الركيزة الرابعة: مسارات المحتوى الرقمي
مؤشـــرات القيـاس:
• تسخير المحتوى الرقمي لتلبية الاحتياجات المحلية الفعلية.
• ضمان الوصول المتكافئ إلى المحتوى الرقمي.
• ضمان الوصول إلى استخدام المحتوى الرقمي.
• إبراز الهوية الوطنية والثقافية في المحتوى الرقمي.
• معالجة التحديات اللغوية التي تعيق استخدام المحتوى الرقمي.
• مراعاة تنوع المجتمع المحلي.
• دعم جهود التغلب على مشكلات المجتمع المحلي، والبيئة العالمية.
الركيزة الخامسة: نطاق المحتوى الرقمي
مؤشـــرات القيـاس:
• تطوير برمجيات لمعالجة «الأتمتة» ومشكلات اللغة المحلية.
• دعم جهود ترجمة المحتوى من وإلى اللغة المحلية.
• تنوع تطبيقات المحتوى الرقمي المحلي.
• إنتاج المعرفة الرقمية المجانية.
• إنتاج ونشر التراث الرقمي.
• دعم خدمات الحكومة الإلكترونية.
• نشر خدمات المحتوى المحمول.
• تكامل إنتاج المحتويين التقليدي والرقمي.
• نشر البرامج مفتوحة المصدر.
• دعم التعاقدات الخارجية في صناعة المحتوى.
• الانتقال إلى البث الرقمي.
المصدر: جدول مبتكر من دراسة رامي عبود حول سياسات المحتوى الرقمي الوطني.المصدر: جدول مبتكر من دراسة رامي عبود حول سياسات المحتوى الرقمي الوطني.
الخلاصة
تأخذ التغيرات على المستوى الرقمي شكلًا متسارعًا، ومع ذلك فإن بناء السياسات المتعلقة بها يحتاج إلى مرونة كبيرة في سبيل مواكبة تحولات المجتمع الرقمي، فنحن بحاجة إلى سياسات رقمية تراعي بعدين أساسيين: الأول مراعاة الظروف التي يعيشها المواطن على اختلافها وتنوعها، إضافة إلى مراعاة إمكانياته كذلك في التعامل مع التكنولوجيا، ودعم مهاراته وكفاءاته في التعامل مع المستجدات التقنية، والثاني مرتبط بالتكنولوجيا ذاتها والتطبيقات التي يجب عليها أن تواكب المستجدات على الصعيد التقني، ولا يغيب عن ذهننا حقيقة أنه بالإنسان والتقنية معًا تتكامل الرؤى.
نستخلص من الرؤية السابقة أن مهمة بناء السياسات الرقمية تشمل قطاعات كبيرة، وكل هذه القطاعات شريكة في صنع السياسات الرقمية وتنفيذها، وتتكامل الرؤية بتضافر الجهود الحكومية وغير الحكومية من أجل رقمنة رشيدة، كما أنها تتسع على نحو تحتاج فيه إلى رصيدٍ معتبرٍ من التعاون وتضافر الجهود على المستويين الإقليمي والدولي.
ولكي تتحقق الاستفادة الكبرى لصانع القرار لابد أن تقدم السياسات الرقمية مؤشرات يتم من خلالها تقييم عملية التحول الرقمي في كل القطاعات بالشكل الذي يستطيع صانع القرار أن يعظم من مكاسبه، ويقلل من تعثره، وهنا يتجلّى الهدف الرئيس من هذا الطرح.