IDSC logo
مجلس الوزراء
مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار

إجتماع

الميديا الجديدة والتطرف.. تغذية أم مواجهة؟

الخميس. 01 يوليه., 2021

الميديا الجديدة والتطرف.. تغذية أم مواجهة؟

ليس جديدًا أن يلعب الإعلام دورًا مُهمًا في تشكيل اتجاهات الرأي العام، وبلورة أفكار إيجابية أو سلبية لدى المجتمع، وإعلاء قيم أو تهميش أخرى، لكن الجديد هو ما شهده العالم خلال العقدين الماضيين، باستحداث أدوات وتقنيات جديدة عززت قدرات ومجالات تأثير وأدوار الإعلام، حتى أصبحت تلك الأدوات والتقنيات هي المسيطرة تقريبًا على طبيعة العمل الإعلامي، فصار السائد حاليًا هو ما يعرف باسم “الإعلام الجديد"، والذي لا يزال بحكم حداثته تُطلق عليه أسماء متعددة منها "الميديا الجديدة" أو "إعلام المجتمع Social Media" أو "وسائل التواصل الاجتماعي"، وأيًا كان المصطلح الذي سيستقر عليه هذا المفهوم الجديد، المسألة المحورية هي أنه تبلور بفعل ظهور وهيمنة مواقع وشبكات التواصل في الفضاء الإلكتروني، وتفوقها على وسائل الإعلام والاتصال الأخرى، فصارت تجمع بين الطبيعة التفاعلية كساحة للتواصل والاتصال بين المستخدمين، ووظيفة نقل الأخبار المُتوارثة من الإعلام التقليدي.
 
في ظل ازدواجية الدور أو بالأحرى الطبيعة المزدوجة للإعلام الجديد، أصبح حضور وسائل التواصل الاجتماعي متعدد الأشكال والوظائف والانعكاسات، حتى صارت طرفًا وسيطًا في كل التفاعلات والتطورات الخاصة بمجريات الحياة في الكرة الأرضية، ومن أبرز تلك التفاعلات، ما يتعلق بالاتجاهات الفكرية والنزعات الإنسانية التي تتبلور وتؤثر على قناعات الأفراد والجماعات، وتوجه في كثير من الأحيان سلوكياتهم.
 
وإذ يُعد التطرف في جوهره وجذوره ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، فإن للإعلام بشكل عام وللإعلام الجديد بصفة خاصة، دورًا أساسيًّا وتأثيرًا مباشرًا في تلك الظاهرة، سواء باتجاه الدعم والتغذية، أو بالكبح والمواجهة، وحيث يتجاوز نطاق مفهوم التطرف الحدود الفكرية ويمتد إلى الجوانب الحركية فينعكس في أشكال ودرجات عنف متفاوتة، تبدأ بالعنف الضمني (اللفظي أو الرمزي)، وتصل إلى العنف المادي باستخدام القوة المسلحة، من هنا يأتي التداخل والارتباط بين التطرف والعنف والإرهاب، ومن أبرز أوجه ذلك التداخل ما يتعلق بالعملية الاتصالية التي تقوم بدور الجسر الواصل بين الأفكار والقناعات المتطرفة، والعمل على فرضها بوسائل قسرية بما فيها القوة والتخويف، وهنا يجري استخدام المحتوى الإعلامي سواء بشكل مباشر أو عبر ديناميات أخرى إيحائية أو حثية، وتضمينها الرسائل والمعاني المطلوب بثها إلى/في المتلقِّي.
 
وبهذا المنطق، فإن الميديا الجديدة اخترقت حواجز دور الإعلام التقليدي كوسيط أي مجرد ناقل للأحداث، وتحولت إلى طرف، أي صانع للحدث، أو على الأقل مشارك فيه، ويعد الاتساع الكمي الهائل في اعتماد المتطرفين على وسائل التواصل الاجتماعي، مؤشرًا بالغ الدلالة إلى مدى خطورة ومحورية الأدوار التي تلعبها هذه الميديا الجديدة؛ فوفقًا لشركة جوجل شهدت الفترة من يناير 2011 إلى ديسمبر 2016 إطلاق أكثر من 720000 صفحة على مختلف منصات شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت"، وهو ما اضطر دولة مثل فرنسا إلى الإقدام عام 2015 على إزالة 1080 محتوى ذا طابع إرهابي، وحجب 68 موقعًا يبرر الإرهاب.
 
أولًا: خصائص مُواتية للتطرف
 
يتسم الإعلام الجديد بخصائص مميزة له تختلف موضوعيًّا وشكليًّا عن الإعلام التقليدي القديم، ولبعض هذه الاختلافات انعكاسات مباشرة على ظاهرة التطرف، سواء من زاوية الانتشار واتساع نطاق التفاعل مع الأفكار المتطرفة، سلبًا وإيجابًا، أو لجهة الزخم المعلوماتي، وسهولة عمل المقارنات، وتحصيل قدر كبير من المعلومات حول الطروحات المتطرفة، فضلًا عن الدور الكبير الذي تلعبه تعددية الوسائط في التأثير على مواقف وإدراكات المُتلقين عبر وسائل الإعلام الجديد، والإسهام في بلورة اتجاهات مُعينة لدى الرأي العام فرديًّا وجماعيًّا.
 
وهنا يمكن القول إن الطبيعة التعددية للوسائط المستخدمة في الإعلام الجديد تمنحها ميزة نسبية عالية مقارنة بالإعلام التقليدي، فيما يتعلق بالقدرة على التأثير في شريحة واسعة من المتلقين مختلفي الشخصيات، ومتنوعي الاهتمامات والميول، فكثير من المتلقين تجذبهم الوسائط المتعددة التي صارت تصاحب الأخبار، بينما تمثِّل سرعة نقل الخبر ميزة كبرى لدى متلقين آخرين، في حين يشعر كثيرون بالرضا إزاء تلك الوسائل الإعلامية المستحدثة، لما توفره من ساحات للحوار و"الدردشة" وتبادل الآراء والأفكار، ولا شك في أن التنوع والسرعة والقدرة العالية على استلاب تركيز وانتباه المستخدمين (المتلقين) عبر حزمة وسائط مبهرة وجذابة تشكِّل الصورة والصوت والفيديو والصفحات التفاعلية، كلها تشكِّل في النهاية قوة جذب هائلة تضع المستخدم تحت تأثير سحرها، وإن بدت في الظاهر تعتمد على التفاعل المتبادل، وتستند إلى معادلة المحفز والاستجابة.
 
ولما كان التطرف ظاهرة عاطفية لا عقلية، فإن شبكات التواصل وغيرها من أشكال ووسائل الإعلام الجديد، تمثِّل نقاطًا جاذبة أو "مغناطيس" يشُد إليه أصحاب الأفكار المتطرفة من مختلف الاتجاهات، وهو انجذاب منطقي؛ حيث ينزع الإنسان إلى التطرف والتشدد حين ينشأ أو يعيش في بيئة غير اندماجية، تتسم بغياب أو تدني مصادر التوعية، وضيق المجال العام، وتراجع التفكير النقدي في المجتمع، فضلًا عن الانكفاء على الهويات الضيقة والتكوينات الاجتماعية الأولية، فكان ظهور وسائل التواصل أشبه بطوق نجاة لذوي الأفكار والنزعات المتأثرة بتلك البيئات والخلفيات المتأزمة؛ حيث رحابة الفضاء الإلكتروني، واتساع نطاق التواصل والتفاعل مع أعداد غير محدودة من البشر، فضلًا عن توافر عوامل الأمان وعدم الانكشاف، بما يسمح بإطلاق الأفكار والآراء، مهما بلغ شططها أو شذوذها.
 
ويمكن بسهولة رصد ارتباط -وإن كان غير شرطي- بين الحالة النفسية والوجدانية (مثل الاغتراب الاجتماعي، والاكتئاب، وانعدام الثقة في الدوائر المحيطة)، ومدى استعداد فرد أو مجموعة للانزلاق في فخ التطرف، وكما أن للإعلام الجديد دورًا في تشجيع أو على الأقل احتضان التطرف والمتطرفين، له أيضًا أدوار لا تقل أهمية في مواجهة التطرف بكل أنماطه ومصادره، فهو في النهاية أداة ووسيط يؤثر حسبما يتم توظيفه وتوجيهه، وليس طرفًا مستقلًا له إرادة وتوجُّه يميل إليه.
 
ثانيًا: دور الإعلام الجديد في تغذية التطرف
 
تدوير الأفكار المتطرفة
مع بدايات ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، تحديدًا موقع Facebook، كان الدور الأبرز الذي لعبه هو تعريف الأشخاص بأصدقاء جدد، وتوسيع نطاق التواصل بين من هم أصدقاء أصلًا، وكانت وسائل التواصل تقوم بمهمة التوصيل Connecting  والتشبيك Engagement بين مستخدميها دون شروط ولا معايير للتصفية والفرز، لذلك كانت ساحة مفتوحة لعرض ومناقشة كل الأفكار والآراء من كل الاتجاهات والمشارب، ومع اتساع نطاق استخدام شبكات التواصل وتضخم عدد المستخدمين، خصوصًا على مواقع Facebook وTwitter وYouTube، أُدخلت تعديلات على قواعد ومعايير التوصيل والتشبيك بين المستخدمين، وذلك باستخدام خوارزميات معقدة، فمثلًا، حدث تقليص تدريجي لما يظهر أمام مستخدم فيس بوك من "كل" إلى "معظم" المنشورات التي يكتبها أصدقاؤه، إلى أن اقتصر الأمر في الوقت الراهن على شريحة مُحددة مُنتقاة من بين العدد الهائل من المنشورات المتداولة بشكل عام.
 
والمعيار الأساسي في انتقاء تلك الشريحة وتقديمها إلى المستخدم أن أصحابها هم أولئك المستخدمون الذين يتفاعلون معه أو يتفاعل هو معهم بانتظام، سواء بالتعليق أو المشاركة أو بتعبير ما Emotion، وبالتدريج تصير عملية التواصل والتفاعل بين المستخدمين أشبه بحلقة مغلقة بين أولئك الذين يتفاعلون معًا، بينما يُستبعد من تلك الحلقة من لا يتفاعلون معًا، وأيضًا محدودو التفاعل المتبادل، والنتيجة المباشرة التي ترتبت على هذه التصفية، أن وسائل التواصل الاجتماعي تحولت إلى غرف مغلقة على المتشابهين والمُتفقين في الآراء، وذوي التوجهات والميول المتجانسة، مع نسبة قليلة من أولئك المختلفين معًا، شريطة أن يكونوا على تواصل وتفاعل دائم، فالمعيار ليس الاتفاق والتفاهم، وإنما التفاعل، وبحكم الطبيعة البشرية، غالبًا ما يتفاعل البشر بدرجة أكبر وأعمق مع من يؤيدونهم في الرأي، ويوافقونهم في الأفكار والتوجهات، فضلًا عن الطباع والخصائص النفسية. 
 
وبالتالي، تتردد في تلك التجمعات شبه المغلقة الآراء والأيديولوجيات والأفكار، تمامًا كما يتردد صدى الصوت في الكهف، ويسود انطباع بأن كل المشاركين لديهم الرأي نفسه، بل وكأن العالم كله كذلك؛ حيث يُختزَل العالم في هذه الحالة داخل تلك الغرفة أو المجموعة أو الصفحة، وهو ما ينطبق بالتالي على طبيعة الوسيط أو المنصة التي ينغلق داخلها كل مجموعة من هؤلاء على أنفسهم، مثلًا، تشير إحدى الدراسات إلى أن منصة "تويتر" تستوعب 40% من المحتوى "الجهادي" الموجود على منصات الميديا الجديدة، والخطورة هنا تتجاوز الانغلاق الذهني على أفكار مُحدَّدة يُعاد ترديدها فيزداد الإيمان بها؛ إذ يصل الأمر أحيانًا إلى زيادة الأفكار المتطرفة شططًا، بواسطة مستخدمين عاديين لشبكات التواصل يستقبلون أفكارًا تقليدية روَّجها في الأصل غُلاةُ المتطرفين، والمتنطعون سواء في الدين أو في أي توجه فكري، فيتحول أولئك المُتلقون المستهلكون لهذه الأفكار إلى "مُنتجين" لها بعد إضافة "لمساتهم" التي تزودها بالعشوائية والجهل، بعد أن تزيدها بالطبع تطرفًا.
 
وهكذا، مع تعدد تلك التجمعات الشبيهة بالكهوف التي تنزوي داخلها مجموعات متجانسة يؤيد أعضاؤها بعضًا، يصير المجال العام الافتراضي مُقسمًا إلى جزر منعزلة، تتباين الاتجاهات داخلها إلى حد التناقض، بل والعداء، ويصبح التقييم النهائي لدور وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات التفاعل الافتراضي، أنها بدلًا من الإسهام في التقريب بين الشعوب والثقافات والأفكار بالحوار، والتعرف على الآخرين والتفهُّم المتبادل، إذا بها قوة دافعة نحو الانعزال والتقوقع، وتعميق الشطط الفكري، والتشدد الأيديولوجي، وبالتالي تتسع فجوات التفرق الإنساني، وتتجذر عوامل التناحر بين البشر.
 
مأسسة التطرف (Institutionalizing Extremism): 
 
كنتيجة منطقية لقيام شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الجديدة بتهيئة بيئة مشجعة على إقامة تكتلات وتجمعات تشترك في أفكارها وقناعاتها، يتطور ذلك التوافق الفكري والاتساق في الآراء إلى حالة من الارتباط النفسي والاستقواء المتبادل، ما يحفز بدوره على مأسسة تلك الروابط وتحويلها من مجرد تجمع افتراضي، إلى كيانات لها ملامح مميزة وقواعد منظمة وأشكال تنظيمية، سواء ظلت تلك الكيانات تعمل فقط في العالم الافتراضي، أو تحولت لاحقًا إلى العالم المادي الفعلي، ومما يزيد قابلية تلك التجمعات الافتراضية للتحول إلى تنظيمات واقعية، أنها بمجرد تبلورها (الافتراضي) سرعان ما تبرز الحاجة إلى وجود قيادة وإدارة، وتحديد غايات وأهداف، ووضع خطط عمل وجدول أعمال، وهكذا تتكون وتتراكم تدريجيًّا وتلقائيًّا كل مقومات (التنظيم) بمعناه الحرفي المادي، ربما باستثناء اللقاءات المباشرة، وإلى حد ما التمويل، لكن غياب أي منهما لا يحد من الأثر السلبي التراكمي لتداول وإعادة إنتاج المفاهيم المغلوطة والأفكار المتطرفة، ومع التحول إلى الطبيعة التنظيمية الفعلية، فإن ذلك يعني مباشرة الوقوف على حافة الانتقال من التطرف إلى العنف.
 
ومن المفارقات، أن سهولة التواصل والتفاعل عبر الفضاء الإلكتروني، تشجع ليس فقط على ارتباط وتقارب الأفراد ذوي الأفكار المتطرفة أو ذوي الاستعداد المُسبق لتقبلها والإيمان بها، وإنما ينسحب هذا أيضًا على المجموعات، أي تنطبق نفس فكرة التئام وانجذاب المتشابهين كل للآخر على المجموعات والكيانات، فتصير فيما بينها علاقة تفاعل إيجابي قابلة للتطور لاحقًا إلى استقواء وربما تنسيق، أو حتى اندماج، تمامًا كما يحدث بين الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية في الواقع الفعلي.
 
التجنيد والاستقطاب: 
في ظل الميزات التي تفوقت بها وسائل الإعلام الجديدة على تلك التقليدية، تغيرت أدوار ووظائف الإعلام، فلم تعد تقتصر على الإعلام بالمعنى المبسط أحادي الاتجاه، وإنما أضيف إليها الدور التفاعلي، ويُقصد به "الإعلام العكسي"؛ حيث يقوم أفراد المجتمع، وهم المتلقون في معادلة الإعلام التقليدي، بدور المرسل، سواء إلى متلقين آخرين، أو إلى الجهات الرسمية، في رد فعل على قرارات الدولة أو عرضًا لمطالبهم، ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها، انتشر استخدام وتكامل الوسائط المتعددة في عرض المحتوى الإعلامي، سواء بواسطة مؤسسات وكيانات منظمة أو أفراد، فقد صار بإمكان كل من يحمل معه هاتفًا ذكيًا، بث ما يشاء من أنباء أو آراء، أو عمل تحقيقات استقصائية، أو طرح أفكار وقناعات شخصية، وكذلك توثيق وقائع وأحداث يريد المرسل نشرها والتعريف بها، أو ترويجها على نطاق واسع، وبتوافر هذه الأدوات المساعدة، أصبحت عملية التأثير على المتلقين وإقناعهم بمفاهيم وأفكار معينة، وتكوين اتجاهات إدراكية لديهم بشأن الواقع المحيط بهم، يسيرة وفي متناول كل ذي قدرات إقناعية متوسطة.
 
وهكذا تلعب الميديا الجديدة دورًا جوهريًّا كأداة تسهيل لتجنيد واستقطاب معتنقين جُدُد لأي طرح أو توجه فكري، سواء أكان دينيًّا أو حتى إلحاديًّا، وحين يتعلق الأمر بمفاهيم وقناعات كثيرٌ منها غيبي، فلا حاجة إلى كثير من الجهد أو إلى إثباتات وأدلة من الواقع أو حتى المنطق العقلي، ويزداد الأمر خطورة في ظل استخدام وتوظيف التقدم التكنولوجي، وتعدد وسائط الاتصال والتأثير (بالصورة والصوت والفيديو)، في التواصل المباشر بين الأفراد والمجموعات، الأمر الذي يسمح بمجال واسع ورحب للتأثير والتأثر المباشر والفوري رغم بعد المسافات.
 
التطرف العكسي:
 
يتشكَّل الكون منذ نشأته من ثنائيات متلازمة، الحق والباطل، الخير والشر، الأبيض والأسود، الاعتدال والتطرف، وتوجد هاتان النسختان المتضادتان في كل الظواهر والمظاهر الحياتية، وفي سياقنا هذا، يوجد كل من الاعتدال والتطرف في كل العقائد والأديان، وكذلك في كل الأيديولوجيات والمذاهب الفكرية، لذلك يمكن بسهولة العثور على أفكار واتجاهات متطرفة في الفكر القومي والليبرالي، وكذلك في كل الأديان.. اليهودية والمسيحية والإسلام، وكما أن بأضدادها تعرف الأشياء، فإن النقائض تُغذي بعضها، وأحد متطلبات هذه المعادلة، وجود الوسائط والأدوات التفاعلية الموصلة بين النقيضين، وحيث يمثِّل الإعلام الجيد أداة تفاعل وتغذية مرتدة تتسم بالديناميكية والسرعة، فإنه يلعب دور الجسر الرابط والناقل للاتجاهات والأفكار المتطرفة المتقابلة، وذلك على مستويين، الأول: جزئي، وهو المتعلق بالتزيُّد المتبادل في التشدد الذي يفضي إلى التطرف، والثاني: كلي، وهو المتعلق بالدائرة الأوسع أي المقابلة بين التطرف "الديني" و"اللا ديني/ العلماني".
 
يلعب الإعلام الجديد، سواء شبكات التواصل الاجتماعي أو وسائط الإعلام الإلكترونية، دورًا أساسيًّا في توسيع وتعميق الفجوة والتناقض بين حواضن التطرف وأقطابه في مختلف الجماعات والمكونات الدينية والثقافية، وهو دور ربما يكون غير ظاهر بوضوح، لأنه يتركز بالأساس داخل الدول ذات التنوع المجتمعي، وخصوصًا تعدد الأديان أو المذاهب، فلولا وجود شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) وما أفرزته من مواقع إخبارية وشبكات تواصل تحفل بكل أشكال الأخبار والآراء والأفكار، مرئية ومسموعة ومقروءة، لظلت المواقف المتطرفة والأفكار الانعزالية أسيرة أصحابها والدائرة الضيقة من معارفهم أو المحيطين بهم، ولما كان لها مردود عكسي سلبي على المكونات المجتمعية الأخرى التي تطالها تلك الأفكار، أو تضعها في خانة "الكُفر" أو "الشِرك"، ولنحسر إلى حد كبير نطاق انتشار الصورة الذهنية لمُروجي ومُصدري تلك الأفكار لدى الأطراف الأخرى، واعتبارهم "متطرفين" أو "إرهابيين" أو على الأقل "رجعيين" و"انعزاليين"، وبعيدًا عن تقييم مدى صحة أو خطأ إطلاق تلك الأحكام والأوصاف من الجانبين، المهم أن قدرًا غير يسير من التغذية المرتدة، يُعزى بامتياز إلى وجود وانتشار وتزايد استخدام الميديا الجديدة من كل الأطراف، فيصير المشهد أقرب إلى "مزايدة" في التطرف والتطرف العكسي.
 
ثالثًا: مهام في مواجهة التطرف
 
المنطلق الأساسي لدور وسائل الإعلام الجديدة في مواجهة التطرف، هو العمل على نفس مسارات الدور السلبي لها في دعم التطرف، لكن في الاتجاه العكسي، المضاد للتطرف. 
التعرف على التطرف والمتطرفين:
أول ما يمكن أن تقدمه وسائل الإعلام الجديدة لمكافحة التطرف، هو المساعدة في التعرف على المتطرفين وتحديد طبيعة ومدى الميل إلى التطرف لديهم، وهو إسهام له قيمته في هذا السياق، حيث المعتاد أن تخفي قطاعات من المتطرفين توجهاتهم في مواجهة أية بيئة غير مواتية، سواء لاعتبارات أمنية مباشرة أو لتجنب العزلة والضغوط الاجتماعية، ونادرًا ما يعلن المتطرفون أفكارهم وإدراكاتهم، خصوصًا للمجتمع المحيط بهم، ما لم يكن متطرفًا بدوره، أو خاضعًا لسيطرة كاملة بواسطة أولئك المتطرفين، من هنا، فإن ما يمكن تسميته "الاشتباك الافتراضي" معهم باستخدام الميديا الجديدة، يُشجعهم على الإفصاح عن أفكارهم ولو بشكل نسبي، وهو ما يحدث أحيانًا بمبادرة منهم لجذب أو استدراج الآخرين إلى دائرة الاقتناع بالمفاهيم والأفكار المتطرفة، بينما يتأتى أحيانًا أخرى من خلال الاستدراج العكسي، أي بإدخالهم في نقاش مفتوح وبأسلوب هادئ ومحايد لا يعكس موقفًا مضادًا أو حتى محايدًا بعيدًا عن التطرف، بشأن قضايا أو أحداث معينة.
 
وأحيانًا يقوم المتطرف بفضح نفسه عبر الفضاء الإلكتروني، عن غير عمد، وذلك من خلال التعامل بصفة خاصة مع المحتوى الإخباري، بشكل يعكس الرؤى والتفسيرات والأحكام المتطرفة تجاهه، فيقوم المتطرف بشكل عفوي بالتعبير عن الغضب، أو التعليق بشكل سلبي على محتوى سواء أكان خبرًا أو رأيًا، مخالفًا لقناعاته ويعتبره خروجًا عن القيم العليا التي يؤمن بها.
 
الاشتباك الذكي:
 
إذا كانت التيارات المتطرفة تنتظم بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي في مجموعات وكيانات افتراضية شبه مغلقة، فمن الضروري أيضًا تشكيل مجموعات شبابية تحاكي تلك المجموعات المتطرفة، مهمتها الأساسية التوعية، وذلك على مستويين، أولهما: هو الأفراد المتطرفون أنفسهم، بالسعي إلى تفنيد قناعاتهم، وتفكيك القوالب الفكرية والأيديولوجية الجامدة التي تنغلق عقولهم عليها، والمستوى الثاني: يضم أولئك الذين لم يقعوا بعد في فخ التطرف، خصوصًا من لديهم قابلية للاستدراج بسهولة، وذلك من خلال مناقشة نفس القضايا والموضوعات التي يستخدمها المتطرفون لاختراق النسق الفكري والثقافي لأفراد المجتمع، والتصدي للأفكار والمفاهيم التي يحاولون بثها من خلال توظيف هذه القضايا الخلافية، وبعضها مسكوت عنه عادة في الإعلام الرسمي التقليدي، ومن أهم هذه القضايا: تكفير المجتمع، والتعامل مع أصحاب الديانات والعقائد الأخرى، وحرية الفكر والاعتقاد، وحدود الحريات في السلوك الفردي والجماعي.
 
تأثير مزدوج للخوارزميات:
 
بعد أن باتت الخوارزميات تلعب دورًا سلبيًّا في حصر الأفكار بين المؤمنين بها، وتدوير القناعات، بل والاهتمامات الشخصية بين المتشابهين فيها، من الضروري الاستعانة أيضًا بعلم البرمجيات، وتحديث الخوارزميات استنادًا إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، للعمل على الحد من سلبيات التضييق والجمود في دوائر التفاعل بين مستخدمي وسائل التواصل، وقد ظهرت بالفعل بوادر يمكن الانطلاق منها وتطويرها في هذا الاتجاه، رغم أنها لا تزال مقصورة على ما تحتاجه أجهزة الأمن للتعرف على الإرهابيين، سواء الحاليين أو المحتملين، فبينما تخضع حسابات معينة للمراقبة والشك في احتمال تبعيتها لتوجهات إرهابية، أو تعبِّر عن شخصيات قابلة للتحول في هذا الاتجاه، تتولّى الخوارزميات القيام برصد دقيق وتفصيلي لأنشطة الشخصيات والمجموعات ذات الميول الإرهابية على شبكات التواصل، خصوصًا تلك الحسابات التي تستهدف حشد الأنصار أو تجنيد المقاتلين، ثم يتم تحليل العلاقات بين الخلايا النشطة والخاملة، وأي عناصر جديدة ربما تنضم إلى أيهما، ومن ثمّ التنبؤ بأية عمليات إرهابية محتملة. 
 
وقد حققت بعض الدول بالفعل نجاحات في هذا الاتجاه، منها روسيا التي تمكّنت عبر استخدام تلك الخوارزميات على شبكة التواصل الاجتماعي (Vkontakte / في كونتاكت)، وتمكّنت موسكو من ضبط عدد هائل من المجموعات الداعمة لتنظيمي "داعش" و"القاعدة"، وتحديد الكثير من الحساب الشخصية التي يمكن تصنيفها بأنها ذات محتوى متطرف.
 
مواجهة التطرف المضاد:
 
كما يجد التطرف مُغذيات وعوامل محرضة في التطرف العكسي، سيكون لتحجيم ذلك الأخير دور مؤثر في تحفيف منابع التطرف، استنادًا إلى انتفاء أحد الروافد الرئيسة لتبرير التطرف ولاحقًا الإرهاب، ومطلوب من الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي بصفة خاصة لعب دور في الحد من التطرف، ونشر الاعتدال والوسطية في مختلف التوجهات الفكرية، سواء أكانت وضعية أو دينية، حتى لا يتحول الأمر إلى العمل في اتجاه واحد كما لو كانت كل الشرور مرتبطة فقط وحصريًّا بالتطرف على خلفية دينية، وتحديدًا إسلامية. وهناك من الدلائل في السلوك الفعلي لبعض الحكومات والمجتمعات الغربية ما يؤيد هذا الطرح، في ضوء ما يتذرع به المتطرفون الدينيون في الانغماس أكثر في الأفكار المتطرفة الانعزالية، بحجة أن الأزمة الحقيقية ليست في أنهم متشددون دينيًّا، وإنما في "التربص" بهم و"الاضطهاد" الذي تمارسه تجاههم المجتمعات الأخرى التي "تعادي" الإسلام والمسلمين.
 
من هنا فإن صعود التيارات اليمينية، وغيرها من النزعات المتطرفة المتزايدة في الغرب يوفر للتطرف والمتطرفين غطاء لوجودهم، وحجة قوية لتبرير التشدد والتقوقع والانغلاق على تلك الدائرة الجامدة من الأفكار الانعزالية المعادية لكل ما أو من لا يتوافق معها، وكما يمكن للإعلام الجديد لعب دور في مواجهة التطرف ذي الخلفية الدينية، تحديدًا الإسلامية، فهو مطالب أيضًا بممارسة الدور نفسه تجاه مختلف أشكال ومصادر التطرف الأخرى، خصوصًا تلك المعاكسة، وربما تكون مهمة وسائل الإعلام الجديدة وشبكات التواصل أسهل في هذا الإطار؛ حيث الأفكار العلمانية والتوجهات القومية واليمينية، على ما فيها من تشدد وعنصرية وميول إقصائية، أكثر قابلية للتفكيك والترشيد، مقارنة بالتطرف القائم على غيبيات وقناعات عقائدية.
 
بشكل عام، ثمّة مهام ووظائف الإعلام الجديد جديرٌ بها، ولا تقتصر على مستوى معين أو نمط واحد من أنماط التطرف، بل تمثِّل إطارًا شاملًا لدور توعوي واحتوائي، من شأنه زرع مقدمات أساسية لتجفيف منابع كل أشكال واتجاهات التطرف من جذورها، ومن أبرز تلك المهام، أن تعمل وسائل الإعلام الجديدة على تعزيز التفكير النقدي لدى فئات المجتمع المختلفة، خصوصًا في مراحل التشكُّل العقلي والوجداني، بدءًا من الطفولة وصولًا إلى مرحلة الشباب، لتأسيس جيل غير قابل للانقياد وراء الأفكار المتطرفة دون تمحيص وفرز وتقييم للغث من السمين، فقد حظيت البيئة المحيطة والمحفزات المجتمعية على اهتمام كبير في سياق التفسير والتأصيل لظاهرة التطرف ومسبباتها، غير أن تلك الجوانب المغذية للتطرف لم تجد القدر ذاته من الاهتمام والتحليل المتعمق عند الانتقال إلى معالجة الظاهرة، سواء في سياق إعادة تأهيل المتطرفين، أو تحصين المجموعات الاجتماعية القابلة للتطريف (اكتساب التطرف).
 
في هذا السياق، هناك ضرورة قصوى لاستخدام وسائل التواصل والإعلام الجديد في المؤسسات الرسمية والدينية، خصوصًا فيما يتصل بإصدار الفتاوى، وتوضيح تعاليم الدين، والأحكام الفقهية في القضايا الخلافية، فالمتطرفون يستخدمون وسائل التواصل لبث الأفكار الجامدة المتشددة، ولا بد من الاستفادة من الإمكانات التقنية المتاحة للحكومات في اتجاه توضيح الفكر المعتدل، ونشر الوسطية لدى المستخدمين، وقد قطعت بعض المؤسسات المهمة في العالم الإسلامي خطوات في هذا الاتجاه، منها تأسيس مؤسسة الأزهر الشريف "مرصد الأزهر لمكافحة التطرف"، وهو منصة إلكترونية مهمتها متابعة ورصد وتحليل مظاهر التطرف في مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى الوقوف على كل الكتابات والدراسات المتعلقة بظاهرة التطرف وكيفية معالجتها، ومراجعة وتقييم الجهود المبذولة في هذا الاتجاه، ويتسم عمل المرصد بالديناميكية، والشمول، وسرعة الاستجابة، فهو يصدر بثماني لغات أجنبية (غير اللغة العربية)، ما يمنحه قابلية عالية للوصول إلى شعوب مختلفة وثقافات متباينة، كما قام المرصد بتوسيع نطاق اهتماماته، فأدرج ضمن دوائر الرصد والتحليل ظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي تمثِّل تطرفًا ضد الإسلام، ثم وسَّع المرصد الدائرة أكثر لتشمل التطرف اليميني المتصاعد في العالم الغربي. 
 
وإن كان تأسيس موقع إلكتروني بداية جيدة لاستخدام الفضاء الوسائطي الذي تحتله بجدارة حاليًا وسائل التواصل (الميديا الجديدة)، فإنه لا يعد جزءًا من هذه الميديا لافتقاده الجانب التفاعلي، والاكتفاء بالجانب الإخباري والتعريفي من أدوار الإعلام، فضلًا عن التركيز في المحتوى على المواد المكتوبة دون المرئية والمسموعة، ومن اللافت أن النمط ذاته هو المتبع في استخدام المرصد لوسائل التواصل الاجتماعي، تحديدًا على شبكتي "فيس بوك" و"تويتر"، وهما الأكثر تجسيدًا لمفهوم وأشكال الميديا الجديدة، وعلى هذا النحو، يتسم استخدام المؤسسات العربية والإسلامية للإعلام بشكل عام، ووسائل التواصل بشكل خاص، بمفارقة كبيرة؛ حيث تستخدم وسائل الإعلام النمط ذاته التلقيني القديم، الذي يعتمد على الإعلام في اتجاه واحد، وتنتظر أن يبحث المتلقي أو الجمهور المُستهدَف عن الوسيلة الإعلامية ويذهب إليها قاصدًا متابعتها، والتعرُّف على محتواها، في حين تتيح الميديا الجديدة إمكانية وصول عالية ومباشرة للمتلقِّي، سواء في شكل رسائل إلكترونية أو نصية، أو عبر موضوعات ومنشورات يتم رفعها على منصات التواصل المختلفة، أو عبر فتح نقاشات وعقد منتديات إلكترونية مفتوحة يتم التنويه عنها في مختلف وسائط الإعلام التقليدي والجديد. 
 
وينبغي الإشارة هنا إلى ضرورة الجمع والتنسيق بين الإعلام التقليدي والجديد، في إطار رؤية استراتيجية متكاملة، يُستفاد فيها من الميزات النسبية لكل منهما، بحيث تكون العلاقة تكاملية لا تنافسية، ومن الضروري أيضًا إيلاء اهتمام برفع مستوى الوعي، واكتساب المهارات الخاصة بتقييم المحتوى، والرسائل المُضمَّنة في المواد المتداولة عبر الميديا الجديدة، ومن أهم تلك المهارات تحري صدقية المحتوى وتتبع مصادره، والتمييز بين الخبر والرأي، والمحتوى الأصلي والمصطنع، والشمول والتنوع في عرض الآراء والمواقف، دون انتقائية ولا اجتزاء. 
 
 

تقييم الموقع